سياحة في أدب الحكم والسياسة المجتمع يريد المرافعة عن ذاته بالأصالة بقلم د . أمين محمود محمد عثمان

ماسة نيوز

في حق اطلاق او تقييد التوكيل والتفويض حديث ، فالحرص على المصلحة التي يُدافع عنها توجب على صاحب المصلحة عدم التفريط بالاهمال والاتكال ، فحرصه على مصلحته يستدعي مراقبة موكله ومتابعته لاستنفاد قدراته ولعرض كل كفاءته دفاعا عن المصلحة المؤتمنة عنده ، وإ الا ؛ فمن الافضل نهوض المرء بحاجته بنفسه حين يأنس قدرة حماية لمصالحه اكثر من وكلائه . فحتى الولاية العامة مرهونة
الاستمرارية برضاء الشعب الذي يستطيع سحب تفويضه حيثما اقتضت الضرورة .
الفور ؛ كمثلهم من مجتمعات دارفور التي تتصف حياتها بالاستقرار ؛ من أشد المتضررين بمظاهر تعاقبت على دارفور تباعا بنهب مسلح وحروبات قبلية ثم بالنزاع المسلح ما بين الحكومة والحركات المسلحة . وبدأت مظاهر التفلت مشتدة إبان حكم السيد الصادق المهدي ( نسأل الله له المغفرة ) . وعد ما عانى منه الفور في حقبة حكمه واحدة من تبريرات الانقلاب – صدق الانقلابيون ام كذبوا – ثم توالت الانتهاكات ضدهم بشكل سافر مع مطالع العام 2002 م بما جرى من تحويل النزاع القبلي الى حرب ما بين الحكومة ومواطنيها . وهي انتهاكات تتوالى لليوم وتحت ثورة ما كانت لتنجح لو لا انهاك النظام البائد بالنزاع في دارفور وانغلاق آفاق الحل عند طغمة عجزت ابداع حل لأزمة السودان في دارفور . فالمجتمعات القاعدية في الاقليم ما زالت حاجتها الاولية الملحة هي توفير السلامة و الأمن للسكان في قراهم ، وهم يرون ان مكافآت التضحيات الجسيمة التي دفعوها من أجل اسقاط النظام قد تسربت من بين اصابع أيديهم لتستقر عند نخبة جشعة لا تكتفي بلهط المنافع بكلتا اليدين ، أنها بعد ملئ اليدين تحضن بالعضدين في الابطين ،
ثم تستجرر بالقدمين ما تبقى ، حرصا بالا تدع لصناع الثورة الحقيقيين منفعة واحدة يأخذونها !
أكثر من اربعة آلاف دسكرة وقرية سويت بالارض ، ليلحق الأذى أكثر من خمسة مليون مواطن ، بينهم ثلاثة مليون ُه اجروا قسرا بالترويع ، ليستقروا في معسكرات المهانة ، نزوحا ولجوء ، في سجون يلا حوائط . ومع استمرار مخططات اهدار كرامتهم وعزتهم كبشر تحت سبب لا يمكن للمجرمين الافصاح عنه – ألا وهو اخفاء أدلة الجريمة بإبادة المعروضات حتى لا تبقى عند الضحية والمتحري ، فالنازحون
1
يختزنون قصص إبادة ثلاثمائة ألف ضحية ، ويعرفون ومواقع قبورهم الجماعية ، ومواضع من ترك جذع السباع ينشنه ، او من استقر في حواصل صقور (الكلدنك ) .
كنا نبصر بكل الحسرات ما حاق بنا و بأهلينا ، وافرغنا مدادا من اليراع لا كالدموع في المآقي ، ولكن نزفا داميا من القلوب ، اجتهدنا لنستدر عاطفة ، او لنوقظ ضميرا ، او لنُن اشط عقلا ، أو نحيي وازعا من الدين بُذكر ان المسلمين جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . فلما جاء حصاد ذلك بئيسا ؛ اهتدينا لحكمة قديمة تقول ( ما حك جلدك مثل ظفرك ) . فتداعى فتية من قومي في الفترة من الثاني الى التاسع من مايو 2022 م لعاصمة دولة جنوب السودان ، على نفقة من منظمة بروميدييشن premeditation الفرنسية بهدف بلورة معالم المستقبل لمجتمع لا يختلف اثنان بمعاناته من الحرب ، ولا بتضحياته العظيمة من اجل الثورة على النظام البائد . فالشكر لدولة جنوب السودان التي
قبلت ان نجتمع في الجنوب .
لم ولا اشعر قط بحرج التخطيط والمشاركة في لقاء اقتصر على ابناء قبيلة الفور فقط بدعوى ان ذلك لا يليق بي ، ليقيني ان المشاركة لا تصطدم مع توجهاتي كمسلم او كمتعلم سوداني او كمتحزب في حزب سوداني . . . فكل تلك الانتماءات تلزمني بنصرة المظلوم والقيام لقضاء حاجته . . ولد اي من اليقين ما يقنع ؛ انني ومجتمعي ومجتمعات مثيلة لمجتمعي ظلمنا وما زلنا نظلم من حكومات السودان بأدلة لا مماراة فيها ، مثل عجز الحكومات توفير الأمن والسلامة لنا من عدوان المعتدين ، ولعمري فان تلك لمن المسئوليات التي قامت عليها عقد الانضواء في الدولة ، وبها تنعقد مشروعية طاعتي للنظام الحاكم ! ولعل في مناصرة قومي بابا لتحقيق العبودية الخالصة لله القائل ( فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلاهم َيحذَ ُرون ) . صدق الله العظيم .
بحث الرهط من قومي في جوبا أجوبة لخمس أسئلة محورية هي ؛ 2 . من هم الفور ؟ فمعرفة خصائص الذات نصف المعركة كما يقولون . 2 . ماذا حدث للفور ؟ وهذ سؤال لتنشيط العقل لتذكر الماضي البعيد والوسيط والحاضر بع اد معضلات الحياة . 3 . كيف قابل الفور ما حدث لهم ؟ وهوسؤال في اطار نقد الذات ومعرفة الايجابيات والسلبيات بمراجعة شاملة للمسيرة التاريخية . 4 . كيف ينظر الفور لمستقبلهم ؟ وهو سؤال لتحديد الاهداف والغايات الآنية بقصد بلورتها بالمناقشات الواسعة الشاملة لكل الفئات والتقسيمات
. 5 . ما وسلئل تحقيق الاهداف والغايات ؟
كانت الخلاصة من الورشة ومن خلال اجابات الاسئلة السابقة : –
ان مجتمع الفور ؛ وكغيره من مجتمعات دارفور أو النيل الازرق أو جبال النوبة واي مجتمع آخر كانت ارضها ساحة للحرب وللاغتصاب ؛ مجتمع معاني من آثار الحرب ، فنفوس اهلها مليئة بالغبن وبالشعور بظلم الحكومات لهم ، فقراهم قصفت بالطيران وبالمدفعية قبل ان يزحف عليها من أطلقت الحكومة يدها ليعيثوا فيها الفساد . فهذه صورة لا تنمحي وليس للضحايا القناعة باي حجة تسوقها الحكومة لتبرير سلوكها مع المواطنين الابرياء في حربها مع الحركات المسلحة . فالمظلوم شاهد والظالم معروف ولا يبدي حركة للتصالح مع ضحايا سياساته من المدنيين الابرياء . هذه هي القضية ، واسباب تصعيب
تحقيق الوفاق الوطني في السودان .
2
هذا المجتمع لم يجد السلام والامان والطمأنينة من عديد اتفاقيات السلام التي وقعت ما بين الحكومة و الحركات المسلحة ، فالحركات تتماهى بقوميتها فترفض تنسيبها للقبائل بينما الحقيقة هي ان القبائل هي التي شكلت حواضنها ودفعت التضحيات الجسيمة بسببها ، وعند توقيع اي اتفاقية صلح فان توفير الامن والسلام للمجتمعات القاعدية تحتل قاعة اهتمامات كل من الحركات والحكومة بالسواء ، فالحركات تغرق في المطالبة بتنفيذ البنود الخاصة بتقاسم السلطة ، وقد تنشغل بدرجة اقل بالترتيبات الامنية بالقدر الذي يخفف للسياسيين ضغوط جيش الحركة المسلحة الموقعة من الاعالة. بينما لا نرى ابدا من يعمل على
توفير الامن للضحايا في قراهم ومضاربهم المختلفة .
وللفور قضية اكثر تعقيدا تتعلق بارتباطهم وعلاقتهم بحركة تحرير السودان جناح الاستاذ عبد الواحد محمد احمد النور ، فبحسب تقديراته هو ؛ لم يكن طرفا في اي محفل نُظم للسلام في دارفور ما عدا حضوره في ابوجا ورفضه التوقيع على اتفاقيتها. ولأن السلام مهاد كل نزاع مسلح ، ولأن حركته كبرى الحركات بمعيار حيازتها على موطئ قدم في السودان ، بالاضافة الى تحكمه في قطاعي الطلاب الفور والنازحين ، ولاعتبارات انطلاق الحركة من مجتمع الفور ، ولاستفراد الفور بدفع أكبر للتضحيات في نضال الحركة اكثر من الاخرين ؛ فكل ذلك ؛ تصبغ في الواقع الحركة بخصوصية التوصيف بنسبتها للفور قبل ان تكون حركة قومية التوجهات – وان كان هذا التوصيف لا يرضي منسوبي الحركة المتماهين مع شعار قومية
الحركة وبالتالي فانهم يرون ذلك تقزيما لحركتهم .
وظل قائد الحركة يرفض باستمرار وعناد مقابلة اي قيادي فوراوي مهما كان توجهه او مقامه في تراتبية القبيلة ، بل هو لا يسمح لأي منضوي تحت حركته من ابناء الفور بان يتواصل مع اي من قيادات القبيلة ، ولا أن يناقش معه امرا تهم القبيلة حتى ولو كان ذلك وقفا للاقتتال داخل حركته فيتضرر منه الاهل .
لقد جعل هذا السلوك مجتمع الفور غائبا من رسم مستقبل السودان مع الآخرين ، كما ان معاناتهم من غياب الأمن معاناة لا تخطئوها عين مبصرة ، بل اضمحل تأثير مجتمعهم سياسيا خاصة وقد اصبح العنوان البارز لاتفاقيات السلام هي اقتسام السلطة ما بين المتغلبين .
هذا ما دفع الفور الى بحث جاد للسلام لمجتمعهم ، قائم على تعديل النماذج القديمة التي لم تحقق حاجة كافة المجتمعات المتضررة بالحرب ، و السعي للبحث عن السلام الحقيقي للمجتمعات برؤى مستجدة ونماذج غير نمطية تقوم ابتداء على اعطاء مفهوم اشمل للسلام توسع فضاءاته من المفهوم التقليدي العقيم الذي يختزل مفهوم السلام على انه عملية وقف الاقتتال ما بين الحركات المسلحة والحكومة. فالحكومة لم تقاتل فقط الحركات بل قاتلت بشكل اشد مواطنين ابرياء لا شأن لهم بالحركات ، وما زالت معاناتهم مستمرة من حقيقة عجز ذات الحكومة توفير الأمن كاحتياج ضروري وأولي للانسان في مجتمعه
الصغير .
ولئن سعت اتفاقية سلام جوبا لتوسيع مفهوم السلام ؛ بقدر ما تستوعب ظلامات مناطق لم تُعرف تمردها على الحكومة الاتحادية ، بفتح مسارات جديدة ؛ فإن الاحق بتوسيع مفهوم السلام هي المجتمعات المتضررة التي لم توفر لها اتفاقيات الحكومة مع الحركات سلاما تنهي معاناتهم من الانتهاكات الجسيمة
التي تقوض امنهم القاعدي وتحول دون تحقيق وفاق وطني شامل في البلاد .
3
عليه فإن مجتمع الفور – وربما بقية المجتمعات التي لم تجد سلاما لاختزال مفهوم السلام على وقف الاقتتال مع الحركات حاملة السلاح – يرغب وباصرار في أن يُم اكن للتعبير بذاته وبالأصالة عن سلام يكون الفور طرفا في تدابيره . فعلى الحكومة الاقبال نحو المجتمعات المتضررة لصناعة السلام معها في حوار غايته انصاف المتضررين وتحقيق العدالة لهم ، والبحث المباشر معهم في الوسائل التي تكفل
سلامة مجتمعاتهم وتحقق لهم سلاما ملموسا في ارض الواقع .
وإذا استنكفت الحكومة الحالية ، ولم تُقبل نحو المجتمع المتضرر للتصالح معه ؛ وبمصالحة عنوانه المصالحة الوطنية مع ضحايا الانتهاكات الجسيمة المتضررين من سياسات الحكومة وجرائمها ضد هؤلاء الضحايا من عهد الصادق المهدي الى الحكومة الحالية ؛ فعندئذ سيدفع البحث عن احتياج ضروري لا يتحقق بالاستنكاف الحكومي ؛ اهل الحقوق والاحتياجات الضرورية الى إشباعها بوسائل مثقلة ربما تكون
أخفها مخاطبة ضمير العالم ودفعه الى انهاء أزمة سارية منذ عقود وبلا حلول وطنية .
إنها دعوة نطلقها عبر الفضاء الأثيري ، وعلى اجهزة الحكومة التلقف والعمل على وضعها في الاجندات القومية للسلام . وعلى الوساطة ايلاء نموذجنا لتحقيق سلام حقيقي وملموس موضع الاهتمام . فلن نرهن بعد الآن ارادتنا لموكل ونحن كمجتمع حضور ، ولا نمنع بهذا من يتطوع للمرافعة بحقوقنا ولكنه قطعا لا ينوب عنا.
د . أمين محمود محمد عثمان

التعليقات مغلقة.