بين عصرين [500 ق.م _ 600 م] _الحكيم صون تزو :_ *شارحا و مفسرا* *لغزوات الرسول!* *بقلم ~* _أحمد الشين الوالي_

ماسة نيوز

«الحلقة الثالثة_1»

*المباغتة* «المفاجأة»

إن المباغتة تعني مفاجأة الشئ من حيث لا يحتسب . و بغته الأمر يبغته بغتا ، فجئه ، و باغته مباغتة . قال الله تعالى : (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها و لا هم ينظرون) 21 : 40 . و فجئه الأمر و فجأة ، بالكسر و الفتح ، و يفجؤه فجئا و فجاءة هجم عليه من غير أن يشعر به ، و قيل إذا جاءه من غير تقدم سبب . و جذر «ف ج أ» لم يرد في القرآن .
و غالب الجيوش العربية تستخدم تعبير المفاجأة ، و القليل منها يستخدم تعبير المباغتة .
و النص القرآني الذي يتحدث عن البغت و المباغتة ورد مبكرا منذ مكة في تهديد المشركين تكرارا :
• (و لا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) 22 : 55 . و «الذين كفروا» هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل «لا يزال» ، و فعل «حتى تأتيهم» الدالين على استمرار ذلك في المستقبل . و في رأي جمع من المفسرين أن «ضمير في مرية» عائد إلى القرآن المفهوم في المقام ، و الأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير «أنه الحق من ربك فيؤمنوا به» . و «الساعة» علم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن . و «عذاب يوم عقيم» هو يوم الحرب ، و قد شاع اطلاق اسم اليوم على وقت الحرب ، و منه دعيت حروب العرب المشهورة «أيام العرب» . و ال «عقيم» المرأة التي لا تلد ، و استعير لها ال«عقيم» للمشؤوم لأنهم يعدون المرأة التي لا تلد مشؤومة . و المعنى : سيأتي الكفار ، كفار قريش ، يوم يستأصلون فيه قتلا مباغتا ، و هذا إنذار بيوم بدر .
• و قال تعالى بصورة معممة في سورة الصافات : (و إن جندنا لهم الغالبون • فتولى عنهم حتى حين • و أبصرهم فسوف يبصرون • أفبعذابنا يستعجلون • فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين) 37 : 173 _ 174 .
• و قال تعالى : (و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله ، إن الله لا يخلف الميعاد) 13 : 31 .
• و التهديد ، و الوعيد ، أوضح في قول الله عز و جل في سورة الدخان : (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) ، 44 : 16 . فبطش الله بهم في بدر فقتل من صناديدهم سبعون و أسر سبعون .
• و تكرر الإنذار : (أم يقولون نحن جميع منتصر • سيهزم الجمع و يولون الدبر) ، 54 : 44_45 . و عند نزول الآية تسآءل عمر بن الخطاب : أي جمع هذا؟ فلما كان يوم بدر رأى رسول الله يردد الآية .
و الخداع العسكري طبقا للمستويات و الأهداف التي ينظم لها ثلاث درجات ، و يشترك الخداع الاستراتيجي و العملياتي في كونهما ينفذان لتحقيق تأمين العملية التي يراد تنفيذها تكتيكية كانت أو استراتيجية ، فالأسلوب واحد . و لذلك يستخدم اصطلاح الخداع العملياتي أو التعبوي على كلا المستويين .
و الخداع العملياتي هو مجمل التدابير التي تخادع العدو عن طبيعة الأعمال العسكرية ، و فكرة العملية و مستواها و وقت ، و محل ، استخدام الأسلحة الجديدة . و طرق الخداع العملياتي كثيرة منها ايصال المعلومات الخاطئة للعدو ، و التوسع في استخدام الوسائل الفنية ، و استخدام طبيعة الأرض ، و ظلام الليل ، و أحوال الرؤية المحدودة ، و تدابير المحافظة على الأسرار الحربية ، و قواعد السيطرة على القوات .
و يهدف الخداع التكتيكي إلى إخفاء أوضاع القوات الصديقة ، و الأغراض الحربية ، عن العدو و خداعه عن أعمال و نوايا قواتنا ، و ذلك ضد استطلاع العدو بجميع أشكاله . و ينفذ الخداع التكتيكي بواسطة التحركات و الحشود الخداعية ، و الأعمال التظاهرية المتناسقة مع تدابير التمويه ، و الخداع بالتمويه .
• • •
و تدابير المباغتة في تجربة الرسول و صحابته برزت في تخطيطه لمباغتة المشركين في كل مستويات الحرب . فكان الرسول مباغتا للعدو دوما في وصوله ميدان القتال قبلهم و ، إدارة المعركة حسب تخطيطه .

*أولا : تدابير المعركة في بدر*
وصل المسلمون إلى أرض المعركة في بدر مبكرا ، فاجروا الشورى فنزلوا عند أدنى ماء في العدوة الدنيا ، و نزلت قريش بالعدوة القصوى ، و أمر رسول الله ببقية الآبار فعورت و بنوا حوضا على القليب فملئ ماء ثم قذفت فيه الآنية . و كان العدو دون ماء . و بني لرسول عريش من جريد كان مركزه لإدارة المعركة ، و سعد بن معاذ في حمايته . و استقبل الرسول المغرب و الشمس خلفه ، و استقبل المشركون الشمس .
و هناك وزع الرسول الألوية و الرايات ؛ لواء للمهاجرين و لواء للخزرج و لواء للأوس ، و في تكثير الرايات و تلوينها تهويل . و دخل المسلمون ميدان المعركة في إخاء _ انتظارا لنصر الله أو الشهادة .
و دخلت قريش إلى ميدان المعركة في نزاع و انحطاط في المعنويات و فشل ، و اختلاف في القيادة و في التقدير .
و في ميدان القتال باغت الرسول العدو بتكتيك قتالي جديد الزحف و القتال بالصف _ كر دون فر .

*ثانيا : التدابير في أحد*
كانت استخبارات الرسول واسعة ، و المعلومات متوفرة عن عدوهم . فاجرى رسول الله الشورى ، و التزم رأي الجماعة الغالب القاضى بالقتال خارج المدينة .
و عقد رسول الله الألوية _ لواء للمهاجرين و لواء للخزرج و لواء للأوس . ثم سلك بهم طريقا لا يمر بالعدو ، فسلك البدائع ، ثم ذقاق الحسمى ، ثم أتى الشيخين مباغتا العدو . ثم استعرض ، صل الله عليه و سلم ، قواته قبل المغرب ، ثم بات بالشيخين . و زحف المشركون في تعبئة . و وصل الرسول إلى أحد ، فهو يرى المشركين ، فأمر بلالا فأذن فصلى بهم الصبح صفوفا .
و اختار رسول الله موقع المعركة في أحد في مكان جيد أدار منه المعركة . و جعل الرسول الرماة خمسين رجلا على جبل عينين لحماية ظهرهم في مواجهة لأي محاولة التفاف من قبل العدو . و قال ، صل الله عليه و سلم ، لآمرهم : (انضح الخيل عنا بالنبل ، لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك لا نأتين من قبلك) . و جعل رسول الله أحدا خلف ظهره و استقبل المدينة ، و استقبل المشركون الشمس فاستدبروا المدينة في الوادي ، و استقبلوا أحدا . و سوى رسول الله الصفوف .

*ثالثا : غزوة الأحزاب*
كان الرسول في مدينته متوفرة عنده المعلومات منذ تحرك المشركين من مكة _ من مصادر متعددة .
و اجرى رسول الله الشورى ، فشرح لهم الحال و تقرير عن الموقف ، فقرر الصحابة ، بعد التداول ، القتال داخل المدينة . فقال بعضهم نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف ، و قال قائل : ندع المدينة خلوفا . و بالشورى برز سلمان الفارسي جندي مستجد في ميدان المعركة لا يعرفه أحد في صف القتال من قبل ، فقال : يا رسول الله ، إنا إذا كنا بأرض فارس و تخوفنا الخيل خندقنا علينا ، فهل لك أن نخندق؟
و عسكر المسلمون إلى سفح سلع و جعلوه خلف ظهرهم ، و خندقوا من المزاد أطم بني حرام من بني سلمة إلى ذباب راتج الجبل الذي جنب بني عبيد غرب بطحان .
و عمل المسلمون مستعجلين ، و عمل معهم الرسول يحمل التراب ، و هم يحفرون الخندق في تنافس بينهم . و كان سلمان عارفا يعمل يومئذ عمل عشرة رجال .
فكان الخندق المباغتة باقية الذكر التي نافست تسمية الغزوة التي أطلق عليها القرآن تسمية الأحزاب .
• • •
و في مغازيه باغت الرسول العدو في المسير العجيب حنكة و دهاء .

*المسير إلى الحديبية*
في مسير الرسول في الغزوة التي اتخذت من الحديبية اسما لها إبداع في المسير . استنفر رسول الله العرب ، و من حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، و هو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب . و خرج رسول الله و من معه من المهاجرين و الأنصار من المسلمين ، و معهم نسوة أربع أم سلمة زوج النبي ، و أم عمارة ، و أم منيع ، و أم عامر الأشهلية . و لحق بهم أناس من العرب .
و ساق رسول الله الهدي ، و أحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، و ليعلم الناس أنه أنما خرج زائرا لهذا البيت ، و معظما له . و ساق معه الهدي سبعين بدنة ، و كان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، و قيل أربع عشرة مائة . أشعر النبي منها عدة ، و أشعر بأمره ناجية بن جندب ما بقي منها ، و قلدها نعلا نعلا في رقابها .
و في مسيره أرسل ، رسول الله ، بسر بن سفيان عينا له من خزاعة يخبره خبر قريش ، فقال له : (إن قريشا بلغها أني أريد العمرة ، فخبر لي خبرهم ، ثم ألقني بما يكون منهم) . و سار رسول حتى إذا كان بغدير الأشطاط ، قريباً من عسفان أتاه عينه ، فهو قد دخل مكة فسمع من كلامهم و رأى من رأيهم فقال للنبي في تقريره : يا رسول الله ، تركت قومك كعب بن لؤي و عامر بن لؤي قد سمعوا بمسيرك ، ففزعوا و هابوا أن تدخل عليهم عنوة ، و قد استنفروا لك الأحابيش و من أطاعهم معهم العوذ المطافيل _ و الأحابيش هم تجمع الطبقة الثالثة ، و هي الدنيا ، من سكان مكة قبل الإسلام ، بعد قريش البطاح و قريش الظواهر . و المطافيل جمع مطفل ، و هي التي لها طفل ، و العوذ جمع عائذ و هي التي ولدت ، و تلك استعارة للنساء و الصبيان _ قد لبسوا لك جلد النمور ليصدوك عن المسجد الحرام ، و قد خرجوا إلى بلدح ضربوا به الأبنية ، و تركت عمارهم يطعمون الجزر أحابيشهم و من ضوى إليهم في دورهم ، و قدموا الخيل عليها خالد بن الوليد ، مائتي فرس ، و هذه خليهم بالغميم ، و قد وضعوا العيون بالجبال ، و وضعوا الأرصاد .
كانت عيون قريش عشرة رجال عليهم الحكم بن مناف ، على جبل وزر وزع يوحي بعضهم إلى بعض القول الخفي : فعل محمد كذا ، و كذا ، حتى ينتهي ذلك إلى قريش ببلدح حيث عسكرت قريش و معهم النساء و الصبيان .
و بعد تقرير بسر بن سفيان أجرى الرسول الشورى ، و سأل أصحابه : (أترون أن نمضي لوجهنا إلى البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه؟ أم ترون أن نخلف هؤلاء الذين استنفروا لنا إلى أهليهم فنصيبهم؟ فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنق يقطعها الله ، و إن قعدوا قدوا محزونين موتورين) . فكان قرار الشورى الغالب : نصمد لما خرجنا له ، فمن صدنا قاتلناه . فكان قرار رسول الله : (إنا لم نخرج لقتال أحد ، إنما خرجنا عمارا) .
و دنا خالد بن الوليد في خيله حتى رأى رسول الله ، ثم صف خيله المائتي فرس بين رسول الله و القبلة ، و أمر رسول الله عباد بن بشر فتقدم في خيله فصف أصحابه . و حانت صلاة الظهر فأذن بلال و أقام ، و صف رسول الله صحابته مستقبلا القبلة و هم خلفه يركع بهم و يسجد ، ثم سلم ، فقاموا على ما كان من التعبئة . قال خالد : قد كانوا على غرة لو كنا قد حملنا عليهم لأصبنا منهم . . ، و لكن تأتي الساعة صلاة أحب إليهم من أنفسهم و أبنائهم .
و حانت صلاة العصر ، فقام رسول الله مواجها القبلة و العدو أمامه ، و كبر رسول الله ، و كبر الصفان جميعا ، ثم ركع و ركع الصفان جميعا ، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه و قام الآخرون يحرسونه . فلما قضى رسول الله السجود بالصف الأول و قاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين ، ثم استأخر الصف الذي يلوونه ، و تقدم الصف المؤخر فكانوا يلوون رسول الله فقاموا جميعا ، ثم ركع رسول الله فركع الصفان جميعا ، ثم سجد رسول الله و سجد الصف الذين يلوونه ، و قام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو ، فلما رفع رسول الله رأسه من السجدتين اللتين بقيتا عليهم و استوى جالسا ، فتشهد ثم سلم عليهم .
و تلك صلاة الخوف ، صلاها الرسول من قبل في غزوة ذات الرقاع .
و كان رسول الله سالكا طريق البيداء ، و هو مهتم براحة قواته . و لما تغير الوضع الأمني من الطمأنينة إلى الخوف تغير شرط المسير عند رسول الله من راحة القوات إلى أمنها . فلما أمسى ، رسول الله ، قال : (تيامنوا في هذا العصل _ الإعوجاج يعني به الرمل المموج الملتوي _ فإن عيون قريش بمر الظهران أو بضجنان ، فأيكم يعرف ثنية الحنظل؟) . و ذات الحنظل موضع في ديار بني أسد .
و أخذ رسول الله الأدلاء ، فأخذ به بريدة في العصل قبل جبال سرواع قبل المغرب ، فسار قليلاً تنكبه الحجارة و تعلقه الشجر ، و حار كأنه لم يعرفها قط . ثم اتخذ حمزة بن عمرو الأسلمي فسار قليلاً فسقط في خمر الشجر ، فلا يدري أين يتجه . ثم قال رسول الله : (من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟) . فقال رجل من أسلم : أنا ، يا رسول الله . فسلك بهم طريقا وعرا أجرل _ صلب غليظ كثير الحجارة _ بين شعاب . فلما خرجوا منه ، و قد شق على المسلمين ، و أفضوا إلى أرض سهلية عند منقطع الوادي قال رسول الله للناس : (قولوا نستغفر الله و نتوب إليه) ، فقالوا ذلك . فقال رسول الله : (و الله ، إنها للخطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها) .
و سار بهم عمرو بن عبد نهم الأسلمي حتى نظر رسول الله ثنية ، فقال : (هذه ثنية ذات الحنظل؟) . فقال عمرو : نعم ، يا رسول . فأمر رسول الله الناس فنزلوا ، و قال : (من كان معه ثقل _ دقيق _ فليصنع) . و كان عامة زاد أصحابه التمر . فقالوا : يا رسول الله ، إنا نخاف من قريش أن ترانا . فقال رسول الله : (إنهم لن يروكم ، إن الله سيعينكم عليهم) . فاوقدوا النيران أكثر من خمسمائة نار ، و اصطنع من أراد أن يصطنع . ثم أمر رسول الله الناس بالمسير ، فقال : (اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض _ ما ملح و أمر من النبات _ في طريق تخرج على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة) . فسلك الجيش ذلك الطريق حتى انتهى إلى ثنية تهبطه على غائط القوم فبركت ناقته ، فقال المسلمون : حل! حل ! فأبت أن تنبعث ، فقالوا : خلأت القصواء! فقال رسول الله : (ما خلأت ، و ما هو لها بعادة ، و لكن حبسها حابس الفيل . أما و الله ، لا يسألونني اليوم خطة في تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها) ، ثم زجروها فقامت فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل الناس على ثمد من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء يتبرص ماؤها تبرصا .
ذلك ما كان من مسير رسول الله إلى الحديبية حيث جرت بيعة الرضوان ، و صلح الحديبية .

*تدابير المسير في غزوة خيبر*
و خرج ، صل الله عليه و سلم ، في شهر صفر سنة سبع للهجرة ، و نادى مناديه : (لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد ، فأما الغنيمة فلا) . فخرج فسلك ثنية الوداع ، ثم أخذ على الزغابة ، ثم على نقمى ، ثم سلك المستناخ ، ثم كبس الوطيح _ وطيح بني مازن أعظم حصون خيبر .
و كان مع الرسول دليلان من أشجع أحدهما حسيل بن خارجة ، و الآخر عبد الله بن نعيم ، فخرجوا على عصر ثم الصهباء . و في الصهباء أكلوا و شربوا ، و صلوا العشاء . ثم دعا رسول الله بالأدلاء ، فقال لحسيل : (امضي أمامنا حتى تأخذ بنا صدور الأودية حتى نأتي خيبر من بينها و بين الشام ، فأحول بينهم و بين الشام و بين حلفائهم من غطفان) . فسلك به حسيل حتى وصل إلى موضع له طرق ، فقال : يا رسول الله ، إن لها طرقا يؤتى منها كلها . فقال رسول الله : (سمها لي) . و كان الرسول يحب الفأل الحسن و الاسم الحسن ، و يكره الطيرة و الاسم القبيح . فقال الدليل : لها طريق يقال لها حزن . قال : (لا تسلكها) . قال : لها طريق يقال لها شاس . قال : (لا تسلكها) . قال : لها طريق يقال لها حاطب . قال : (لا تسلكها) . قال : لها طريق واحد لم يبق غيرها ، اسمها مرحب . قال : (نعم ، أسلكها) .
و في مسيره ذاك قدم رسول الله عباد بن بشر في فوارس طليعة ، فأخذ عينا لليهود من أشجع ، فقال : من أنت؟ قال : باغ ابتغى أبعرة ضلت لي ، أنا على أثرها . قال له عباد : ألك علم بخيبر؟ قال : عهدي بها حديث ، فيم تسألني عنه؟ قال : عن اليهود . قال : نعم ، سار كنانة و هوذة في حلفائهم غطفان فاستنفروهم و جعلوا لهم تمر خيبر سنة ، فجاؤوا معدين مؤيدين بالكراع و السلاح يقودهم عيينة بن بدر ، و دخلوا معهم في حصونهم ، و فيها عشرة آلاف مقاتل ، و هم أهل الحصون التي لا ترام ، و سلاح و طعام كثير و لو حصروا لسنين لكفاهم ، و ماء واتن يشربون في حصونهم ، لا أرى لأحد بهم طاقة .
فضربه عباد بن بشر بالسوط ضربات ، و قال : ما أنت إلا عين لهم ، أصدقني و إلا ضربت عنقك . فقال الأعرابي : القوم مرعوبون منكم ، خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود . . قال لي كنانة : اذهب معترضا للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك ، و احرز لنا عددهم ، و أدن منهم كالسائل لهم لما تقوى به ، ثم ألق إليهم كثرة عددنا و مادتنا فإنهم لا يدعون سؤالك ، و عجل الرجعة إلينا بخبرهم . ثم قدم عباد الجاسوس إلى النبي فأخبره الخبر ، و عمر بن الخطاب حاضر فقال : اضرب عنقه . قال عباد : جعلت له الأمان! فقال رسول الله : (أمسكه معك يا عباد ، فأوثق رباطا) .
و سلك الدليل برسول الله حتى انتهوا إلى خيبر ، فسلك به حياض و السرير _ الوادي الأدنى بخيبر _ فاتبع صدور الأودية حتى هبط به حصن الخرصة ، ثم نهض به حتى سلك الشق و النطاة . و قدم رسول الله إلى المنزلة ليلا ، و كان يهود يقومون كل ليلة قبل الفجر فيتلبسون السلاح و يصنعون الكتائب ، و هم عشرة آلاف . و تحول رسول الله إلى صخرة كانت راحلته بركت لا تريد تركب . و عند الصباح جاءه الحباب بن المنذر يقول : يا رسول الله ، صل الله عليك ، إنك نزلت منزلك هذا فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم فيه ، و إن كان الرأي تكلمنا . فقال رسول الله : (بل هو الرأي) . فقال الحباب : يا رسول الله ، دنوت من الحصن و نزلت بين ظهراني النخل و النز مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة ، ليس قوم ابعد مدى منهم ، و لا أعدل منهم ، و هم مرتغعون علينا و هو أسرع لانحطاط نبلهم مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل ، تحول بنا يا رسول الله إلى موضع برئ من النز و من الوباء ، نجعل الحرة بيننا و بينهم حتى لا ينالنا نبلهم . فدعا رسول الله محمد بن مسلمة ، فقال : (انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم بريئا من الوباء ، نأمن من بياتهم) . فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع _ وادي قرب خيبر _ ثم رجع إلى النبي ليلا فقال : وجدت لك منزلا . فقال رسول الله : (على بركة الله) .
و من موقعه ذاك أدار رسول الله معركته في حصاره خيبر ، فدخلها حصنا حصنا ، و برزت خصلة في اليهود إذ بدأ تسلل أفراد منهم إلى معسكر المسلمين يكشفون ستر اليهود و يدلون على عوراتهم .

*عمرة القضية*
و خرج رسول الله في هلال ذي القعدة سنة سبع في الشهر الذي صده فيه المشركون ، لقوله تعالى : (الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص) 2 : 194 . و أمر رسول الله أصحابه أن يعتمروا بقضاء عمرتهم و ألا يتخلف منهم أحد ممن شهد الحديبية ، فلم يتخلف إلا من كان قد استشهد بخيبر و رجال كانوا قد ماتوا ، و خرج معهم قوم لم يكونوا من أهل الحديبية ، فكان المسلمون في عمرة القضية ألفين .
و في خروجه ، ذاك ، حمل رسول الله السلاح و البيض و الدروع و الرماح ، و قاد مئة فرس ، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة ، و قدم السلاح و استعمل عليه بشير بن سعد . فقيل : يا رسول الله ، حملت السلاح و شرطوا علينا ألا ندخل إلا بسلاح المسافر ، السيوف في القرب . فقال رسول الله : (إنا لا ندخلها عليهم الحرم ، و لكن تكون قريباً منا ، فإن هاجنا هيج من القوم كان السيف قريباً منا) . و وصل محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران فوجد بها نفرا من قريش ، فسألوه ، فقال : هذا رسول الله ، يصبح هذا المنزل غدا ، إن شاء الله . فرأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد ، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل و السلاح ، ففزعت قريش و قالوا : ما أحدثنا حدثا و نحن على كتابنا و مدتنا _ صلح الحديبية _ ففيما يغزونا محمد في أصحابه؟
و أرسل المشركون مكرز بن حفص بن الأخيف ، فجاء رسول الله في مر الظهران فقال : يا محمد ، ما عرفت صغيرا و لا كبيرا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك ، و شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر ، السيوف في القرب! فقال رسول الله : (لا ندخلها إلا كذلك) . فرجع مكرز إلى أهل مكة ، فقال : إن محمدا لا يدخل بسلاح ، و هو على الشرط الذي شرط لكم .
و دخل رسول الله مكة ، و أصحابه محدقون به متوشحو السيوف يلبون . و وقف رسول الله على راحلته القصواء عند ذي طوى و المسلمون حوله ، ثم دخل الثنية التي تطلعه على الحجون ، و لم يقطع التلبية حتى جاءوا عروش مكة .
و خلف رسول الله مائتي رجل على السلاح عليهم أوس بن خولي .
و صف المشركون له ، صل الله عليه و سلم ، عند دار الندوة لينظروا إليه و أصحابه . فلما دخل المسجد أضطبع بردائه _ أدخل بعضه تحت عضده اليمنى ، و جعل طرفه عند منكبه الأيسر _ و أخرج عضده اليمنى ، ثم قال : (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) . ثم استلم الركن ، و خرج يهرول و يهرول أصحابه معه حتى واروه البيت منهم ، و استلم الركن اليماني ، و مشى حتى يستلم الحجر الأسود ، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ، و مشى سائرها . إن رسول الله إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم ، و ما تحدثوا به من أن محمدا و أصحابه في عسرة و جهد و شدة .
و أمر رسول الله مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح ، و يأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ، ففعلوا .
ثم جاء المسلمين حويطب بن عبد العزى القرشي ثم العدوي ، في نفر من قريش ، يأمر رسول الله بأن يرتحل بعد أن قضى العمرة . فأمر رسول الله أبا رافع بالرحيل ، و قال : (لا يمسين بها أحد من المسلمين) .
*المباغتة في غزوة الفتح*
التزام الرسول ، و اتباعه ، بنصوص و روح اتفاق السلام المعروف ب«صلح الحديبية» الذي نص على :
«• وضع الحرب عشر سنين . يأمن الناس فيها ، و يكف بعضهم عن بعض .
• لا إسلال و لا إغلال . بيننا عيبة مكفوفة .
• من أحب أن يدخل في عهد محمد و عقده فعل ، و من أحب أن يدخل في عهد قريش و عقدها فعل .
• من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده إليه ، و أنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه .
• و أن محمدا يرجع عنا عامه هذا باصحابه ، و يدخل علينا في قابل في أصحابه فيقيم ثلاثا ، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر ، السيوف في القرب» .
و قريش خرقت الاتفاق عندما دعمت بني بكر بالسلاح و الرجال ، و ذلك خرق للنص القائل «يأمن فيها الناس و يكف بعضهم عن بعض ، على أنه لا إسلال و لا إغلال» ، و الإغلال من معانيه الخيانة و هي تكون خفية ، و الإسلال من معانيه سل السيوف و الغارة الظاهرة .
كان الله ، العليم الخبير ، يعد المسلمين و يعلمهم كيف يكون الإعداد ليوم الفتح حين يخرق المشركون الاتفاق!
ففي حوالي سنة ست من الهجرة أنزل الله من القرآن قوله تعالى الآمر : (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا • و إن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم علي إذ لم أكن معهم شهيدا • و لإن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم و بينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما • فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، و من يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما • و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك وليا و اجعل لنا من لدنك نصيرا) سورة النساء «الآيات 70 _ 74» .
و في تلك النصوص دلالة على تهيئة ، و إعداد لغزوة قادمة . و الفترة التي بين سنة ست سنة نزول سورة النساء ، و سنة ثمان سنة غزوة فتح مكة ، كانت العرب في تألب و اشتداد على المسلمين ، و نصرة لقريش ذبا عن آلهتهم .
و النص «انفروا» نص يفيد أن المسلمين غازون لا مغزوون ، و ربما يفيد مجرد التنبيه و الاستعداد لغزو العدو . و النص «و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين . . .» يفيد واجب نصرة المستضعفين من المسلمين في مكة . و النص «فإن كان لكم فتح من الله» يفيد فتح مكة كما ورد في مواضع كثيرة .
و أمر الله : «يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم» تحريض على الجهاد و الاستعداد ، و بدأ بأخذ الحذر أكبر قواعد القتال اتقاء و حيطة من خدع العدو . و ورود هذا النص في ذلك الوقت ينبه المسلمين ألا تغتروا لما بينكم و بين العدو من هدنة صلح الحديبية ، فالعدو و أنصاره يتربصون بكم الدوائر ، و من بينكم منافقون أعداء في صورة اولياء ، و قال عنهم : «و إن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي . . .» .
و الحذر يقتضى أخذ الحيطة و السلاح ، و لذلك عطف السلاح على الحذر ، كما قال تعالى : «و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم» . و أخذ الحذر يعني تخير أساليب القتال حسب حال العدو ، لأنهم إذا أخذوا حذرهم تبعه الواجب المأمور به : «فانفروا ثبات أو انفروا جميعا» . و «انفروا» تعني أخرجوا للحرب فمصدره النفر ، بخلاف نفر ينفر ، بضم العين ، في المضارع فمصدره النفور .
و «ثبات» جمع ثبة ، بضم الثاء ، و هي الجماعة . يعني انفروا متفرقين في مجموعات ، أو جميعا جيشا واحدا .
و تدابير المباغتة في غزوة الفتح كانت غاية في الإحكام . فابتداء قرر الرسول القائد مواجهة قريش و نصرة خزاعة دون إجراء للشورى معلنا : (لا نصرت إن لم انصر بني كعب ، مما انصر منه نفسي) . و قال لوفد خزاعة المشتكي إليه غدر قريش بعد سماعهم : (ارجعوا ، و تفرقوا في الأودية) حتى لا يعلم بهم أحد . فتفرقوا راجعين ، و ذهبت منهم طائفة إلى الساحل تعارض الطريق ، و لزم بديل ابن أم أصرم في نفير معه الطريق .
و لما سأل أبو بكر الرسول عن غزوهم قريش و بينهم و بينهم مدة قال الرسول : (إنهم غدروا و نقضوا العهد ، فأنا غازيهم ، أطو ما ذكرت لك) .
*السرية :*
أهتم الرسول بالسرية جداً ، فقال لعائشة زوجه : (جهزينا و أخفي أمرك) . و دعا رسول الله ربه : (اللهم ، خذ على قريش الأخبار حتى نأتيهم بغتة) . و أضاف : (اللهم ، خذ على قريش أبصارهم ، فلا يروني إلا بغتة ، و لا يسمعوا بي إلا فجأة) . و كان عمر بن الخطاب مسؤول تأمين العملية .
*الحشد و التعبئة :*
أرسل رسول الله إلى أهل البادية و إلى من حوله من المسلمين ، و أرسل رسولا في كل ناحية ، يقول لهم : (من كان يؤمن بالله ، و اليوم الآخر ، فليحضر رمضان بالمدينة) . و قدم المدينة قدر بن عمار فأسلم و عاهد الرسول أن يأتيه بألف من قومه سليم على الخيل ، فرجع لقومه و جهزهم ثم أتاه الموت فأوصى إلى نفر ثلاثة من قومه إلى العباس بن مرداس و جبار بن الحكم و هو الفرار الشريدي و الأخنس بن يزيد . و جاءوا رسول الله فسألهم : (أين الرجل الحسن الوجه ، الطويل اللسان ، الصادق الإيمان) قالوا : يا رسول الله ، دعاه الله فأجابه . ثم أسلموا ، و فيهم أنس بن عياض بن رعل و راشد بن عبد ربه ، و قالوا : يا رسول الله ، اجعلنا في مقدمتك ، و اجعل لواءنا أحمر ، و شعارنا مقدم . ففعل ، رسول الله ، كل ذلك بهم فشهدوا الفتح و الطائف و حنينا .
و أخذ رسول الله في الإجراءات و التدابير الأمنية في الحيطة و الحذر . فأخذ ، صل الله عليه و سلم ، بالانقاب _ طرق المدينة ، و كانت الانقاب مسلمة _ فكان عمر بن الخطاب يطوف على الانقاب ، قيما فيهم ، فيقول : لا تدعوا أحدا يمر بكم إلا رددتموه ؛ إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ عليه و يسأل منه ، أو ناحية مكة .
*التمويه* « _Camouflage_» :
و التمويه هو مجمل التدابير المتخذة من قبل الأفراد ، أو القوات للإخفاء عن رصد العدو دون أن يعطل هذا الإخفاء المهمة القتالية . و التمويه يؤمن مبدا الحفاظ على القوات ، كما يسمح بتحقيق المفأجاة .
و عسكر رسول الله ببئر أبي عنبة . و عقد الألوية و الرايات ، فظان يظن أن رسول الله يريد الشام ، و ظان يظن ثقيفا ، و ظان يظن هوازن .
ثم بعث رسول الله من هناك أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن أضم _ ماء يطؤه الطريق بين مكة و اليمامة عند السمينة _ و بينها و بين المدينة ثلاثة برد ، ليظن ظان أن رسول الله توجه إلى تلك الناحية ، و لأن تذهب بذلك الأخبار . فانصرف القوم ، و لم يلقوا جمعا حتى انتهوا إلى ذي خشب _ واد على ليلة من المدينة _ و بلغهم أن رسول الله توجه إلى مكة ، فأخذوا على بين حتى لحقوا النبي بالسقيا .
و في بادرة كادت أن تخرق ذلك التدبير الأمني المحكم حين كتب الصحابي حاطب بن أبي بلتعة ، أحد البدريين ، و كان على علاقة و علم بتدابير الحيطة و الحذر المتبعة في تأمين العملية ، فكتب إلى قادة في قريش : {إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو ؛ إما إليكم و إما إلى غيركم . فعليكم الحذر ، و لا أراه يريد غيركم ، و قد أحببت ان تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم . قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، و أقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم ، فإنه منجز له ما وعد} .
و كتاب حاطب مرسل إلى صفوان بن أمية ، و سهيل بن عمرو ، و عكرمة بن أبي جهل . و أعطى الكتاب لامرأة من مزينة و جعل لها جعلا ، و قال لها : {أخفيه ما استطعت ، و لا تمري بالطريق _ الانقاب _ فإن عليه محرسا} فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ، فخرجت تسير على غير نقب عن يسار المحجة في الفلوق _ الشقوق .
و لأن المسلمين أحسنوا التدبير جاءهم النصر خبرا من السماء يخبر الرسول بفعل صاحبه حاطب . فأرسل رسول الله علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام إلى المرأة المزنية ، و قال لهما : (أدركا امرأة من مزينة قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا) ، و فعلا ذهبا إلى حيث وجهها فألقيا القبض عليها ، و معها كتاب حاطب .
ثم نزل القرآن يعالج هذا الزلل يقول للمسلمين : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة . . .) سورة الممتحنة _ الآية 3 .

*التشكيل و المسير في غزوة الفتح*
خرج رسول الله ، و قاد المسلمون الخيل و أمتطوا الإبل ، و كانوا عشرة آلاف ، فلما انتهوا إلى الصلصل قدم رسول الله الزبير بن العوام في مائتين من المسلمين .و سار المسلمون و لما يعرفوا إلى أين يسيرون!
و لحق برسول الله عيينة بن حصن ، و وافى رسول الله في العرج في نفر من قومه ، فسأل رسول الله : يا رسول الله ، بلغني خروجك و من اجتمع إليك ، . . . ، و لست أرى هيأة حرب ، لا أرى ألوية و لا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يا رسول الله؟ فقال النبي : (حيث يشاء الله) . و وافى الأقرع بن حابس رسول الله بالسقيا في عشرة نفر من قومه .
فلما نزلوا قديد عقد رسول الله الألوية و الرايات ، فندم عيينة ألا يكون قومه نفروا مع محمد . فدخل رسول الله يومئذ مكة بين الأقرع و عيينة .
و في تقدم طليعة الجيش ألقوا القبص على عين من هوازن اعترف بمهمته التي ترصد حركة مسير المسلمين و ما يريد الرسول في مسيره .
و عند وصوله الكديد ، بين العصر و الظهر ، أخذ رسول الله إناء به
ماء فأفطر ، و قال رسول الله لأصحابه : (إنكم مصبحو عدوكم ، و الفطر أقوى لكم) . و بلغ رسول الله أن أناسا صاموا ، فقال : (أولئك العصاة) .
و حتى وصول المسلمين مر الظهران لم يبلغ قريش حرف واحد من مسير رسول الله إليهم .
و في مر الظهران أوقد الجيش الغازي النيران _ عشرة آلاف نار ، و خرج أبو سفيان و معه نفير من قريش ، حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتحسبون الأخبار ، فأخذتهم عيون رسول الله . و هناك تعرضت قيادة قريش لضغط نفسي شديد ، فرجعوا إلى قومهم منهزمين مستسلمين ليس بهم قوة و لا حماية إلا «من دخل بيته فهو آمن» و «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» ، و «من ألقى السلاح فهو آمن»!
و كانت مناورة رسول الله و دخوله مكة غاية في البراعة و الدهاء . كانت خطته تقتضى دخول مكة من أقطارها الأربع . فمن ذي طوى فرق جيشه ، فدخل الزبير بن العوام و من معه من كدي على المجنبة اليسرى ، و دخل سعد بن عبادة و من معه من كداء ، و دخل خالد بن الوليد و من معه من الليط أسفل مكة على المجنبة اليمنى ، و اقتحم أبو عبيدة بن الجراح و معه رسول الله من أذاخر .
إن إحدى الميزات الرئيسة لهجوم القوات في اتجاه متلاق من محيط الدائرة نحو مركزها أمر يصعب على القوات المدافعة الاستدارة نحو العدو أثناء العمل و تطويقه . بينما يستطيع المهاجم المتجه نحو المركز بالعمل ضد كل القوات المدافعة في وقت واحد و كفاءة لا تقلل شأن نقطة على أخرى .
و بعد اقتحامه مكة عفا رسول الله عن أهل مكة بقوله : (اذهبوا ، فأنتم الطلقاء) .
ثم بث رسول الله سراياه في كل وجه ، و أمرهم أن يغيروا على من لم يكن على الإسلام . فخرج هشام بن العاص في مائتين قبل يلملم ، و خرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة قبل عرنة ، و بعث خالد بن الوليد إلى العزى يهدمها فخرج في ثلاثين فارسا في هدمها لخمس بيقين من رمضان سنة ثمان .
• • •
لقد رأينا التدابير الخفية من حيل البشر و خداعهم في الإرجاف و التشانيع التي يقع بها التخذيل و الغلب . و من تلك الأسباب الخفية أمور ربانية لا قدرة للبشر على اكتسابها ، و من ذلك قول رسول الله : (نصرت بالرعب مسيرة شهر) ، و ما جرى له من نصر و غلب في حياته ، و ما جرى في فتوحات المسلمين الأولى .
و من أراد مدد السماء عليه أن يتفهم كيفية الحصول على ذلك الدعم و الحصول على تلك الأسباب الخفية المتجددة ، و اتباع الطريق المستقيم . نعم ،
عليه مراجعة آيات القرآن بشأن وقائع غزوة بدر _ سورة الأنفال ، و أحد _ سورة آل عمران ، و الخندق _ سورة الأحزاب ، و الفتح _ سورة النساء .

التعليقات مغلقة.