أمامة الترابي، تكتب: بين حاكم ومحكوم
دعفي مباحث السلطة وأثرها على سلوك الناس، ربما مرّ الكثير منّا بالمقولة (الملاحظة) المشهورة والمنسوبة للورد الانجليزي أكتون والتي يقول فيها “إن السلطة تميل الى الإفساد، والسلطة المطلقة تُفسد مطلقاً..” وكما هو واضح فاللورد يتحدث عن أن السلطة تفسد سلوك من يملكونها بقوتها المسخرة لهم وكلما ازدادت سلطتهم قوة وأمداً، ازدادت مفاسدهم بلا شك! ما تحدث عنه اللورد أمر طبيعي ومعلوم ومتكرر وربما جاء في إطار الحديث عن القوة النظامية السياسية المرتبطة عموماً بالسيطرة على الموارد (المال) وسلطة الحكم (تصريف شئون الناس). كذلك يروي التاريخ كيف أن تلك السلطة الرسمية أو النظامية غالباً ما لا تدوم لجماعة أو لفرد ما على الآخرين، فمن يَحكم اليوم قد يُحكم في غد ومن يتسلطون اليوم ربما كانوا ممن تسلط عليهم آخرين فيما سبق. ونظراً في سلوك الحاكم أو صاحب السلطة، فإننا، وبجانب ملاحظة اللورد المؤكدة على أن السلطة تفسد السلوك بشكل ما، نرى كثيراً أن صاحب السلطة اليوم قد يأت بأفعال “متسلطة وظالمة” عانى منها واستنكرها وربما ناهضها فعلاً هو ذاته في الزمان السابق عندما كان محكوماً تُمارِس عليه السلطة فوقيتها وإمرتها. في الغالب، فإن الشخص أو الجماعة لا تتغير قناعاتهم ولا تتبدل رؤيتهم للمباديء مع تحول السلطة إليهم/ منهم، بل دائماً ما يرفعون نفس الشعارات ويعلنون ذات المباديء في حال أنهم حاكمين أو محكومين. الشاهد، أنه كثيراً ما تأتي السلطة للمظلوم الذي عانى من قصور العدالة فيما سبق، فيقوم، بفعل السلطة، بممارسة الظلم كرة أخرى في جوهر سلوكه سواءً اختلف شكل الظلم وتمظهره أو اتفق مع ما عانى منه سابقاً. وربما يمارس نوعاً من تفضيل ذاته (صاحبة السلطة) مما استنكره على من سبقت لهم دولة السلطة عليه ففضلوا انفسهم وميزوها فوق ما استحقوا. بشكل عام، يبدو هذا الأمر غريباً فكيف لمن عانى من الظلم أن يمارسه، وكيف لمن تأذّى من تفضيل أهل السلطة لذواتهم أن يفضل ذاته وهو حاكم؟؟
أجرت مجموعة من الباحثين (أمبادي وهيوز وساووكا) من جامعة ستانفورد، دارسةً تبحث في أثر السلطة على سلوك الناس (في حال كونهم متسلطين أو مُتَسلَّط عليهم) عبر عدد من التجارب. خلصت الدراسة لأن السلطة تؤثر على سلوك من يملكونها فتجعلهم أكثر حساسية لأي قدر من الظلم يمارس عليهم فينتبهون له وسراعاً ما يغيِّرون أوضاعهم ويرفعون الظلم عنهم ومن ناحية أخرى فإنهم أقل حساسية عن المتوسط عندما يُمارس الظلم على من سواهم بل وأكثر من ذلك فإنهم عندما يحصلون على ميزات ما على حساب الآخرين، فذلك الأمر لا يعنيهم كثيراً ولا يمثل مشكلة “اخلاقية” لهم. من جانب آخر، فإن نفس الدراسة وحينما نظرت لسلوك المتسلَط عليهم، وجدت أنهم أقل حساسية لما يُمارس عليهم من ظلم وأقل قدرة على السعي للعدالة أو جلبها لأنفسهم. تسهم الدراسة في تفسير تغير سلوك الشخص ذاته (أو مجموعة الأشخاص) تجاه مبدأ العدالة والنزاهة عندما يتحول من محكوم لحاكم ولكن لا بد ان ننتبه لأن مفهوم امتلاك السلطة في الدراسة (ولأغراض التجربة العلمية) وضع بشكل بسيط وربما لحظي الأثر إذ أن المشاركين قد وزعوا بين متسلطين ومتسلط عليهم فقط بجعلهم يكتبون (قبل بدء التجربة) عن موقف ما كانت لهم فيه السلطة على آخرين (في حالة أصحاب السلطة) أو كانوا واقعين تحت تأثير سلطة آخرين (في حال المتسلط عليهم). نظراً للأثر الذي أحدثه هذا الموقف (المُستدعى والمكتوب) على سلوك الأشخاص أثناء الدراسة، يمكننا أن نقدر عمق وفداحة الأثر الأكبر والأعمق للسلطة على أناس يملكون سلطات حقيقية وواسعة المدى وبليغة القوة.
بلا شك فإن كثيراً من الأمم التي تقدمت في مراقي التعاقد الاجتماعي قد انتبهت لضرورة ضبط السلطة ( الرسمية) في قوتها وفي أمدها تجنبا لمزالق الإفساد فبنت نظمها الحاكمة بشكل يضمن كبح جماح المتسلطين ويحدد آجال تمتعتهم بالسلطات المعينة بما يتناسب وحفظ الحق العام.
وإن نظرنا لما أعمق وأبعد عن الشكل الكلاسيكي للسلطة والذي تمثله السلطة الرسمية الحاكمة (الحكومة)، فلا يخفى علينا أنه وفي أي مجتمع ما، يوجد نوع من النفوذ السلطوي الضمني الاقتصادي أو الاجتماعي (الاجتماعي- الثقافي) الذي قد تفوق قوته في بعض المجتمعات قوة السلطة الرسمية الحاكمة نفسها وغالباً ما يكون أكثر استقراراً (من حيث الاستمرارية) من السلطة الرسمية. وبناءً على ما سبق من نقاش ودراسة، فإن ذلك النوع من السلطة (الضمنية)، حالما حصل عليه أناس دون الآخرين، ترجحت كفة أن يمارسوا شكلاً من أشكال الفساد ( التسلط والظلم ومجانبة العدالة والنزاهة) غالباً ما يظهر جلياً في أن يأخذ أهل السلطة الضمنية اكثر مما يستحقونه أو يمنعوا عن الآخرين (المتسلط عليهم) ما يستحقونه. ومن المعلوم أن مثل هذه السلوكيات التي يتسم بها أهل السلطة من رفض شديد واستنكار لأي نوع من الظلم تجاههم مع تغاضيهم عن ظلم الآخرين (من سواهم) بل واستفادتهم من ذلك الظلم الواقع على الآخرين بشكل ما، يكرس المزيد من السلطة والموارد لدى الأكثر سلطة بينما يبقى الأقل حظاً من المتسلَط عليهم اقل قدرة على الوعي بالظلم وتعريفه ومناهضته فيرزحون وقتاً أطول ويعانون بؤساً أكثر من وطأة التمييز السلبي والاوضاع المجحفة. وإن وضعت العقود الاجتماعية (الدساتير) والقوانين الرسمية حدوداً تضمن كثير من الضبط للسلطة الرسمية بقدر ما من ضبط السلطة/السلطات الضمنية لكن تظل السلطات الضمنية (العرفية) تلك عصية على الضبط الشكلي ولا تحتويها إلا الأنساق الكريمة والفاضلة والتي يبنيها الوعي والالتزام الأخلاقي والتي دوماً ما تسائل التراتيب الاجتماعية والموروث والمسكوت عنه وتسعى لجعل المجمتعات أكثر عدالة وأقل تجاهلاً للحقوق بشكل طوعي وذاتي.
التعليقات مغلقة.