تعقيب على مقالة الاستاذ المحبوب عبدالسلام : أفكار حول العفو و الاعتراف د. تاج الدين البشارى

ماسة نيوز

عزيزي الاستاذ المحبوب عبد السلام
تحية طيبة
في اعتقادي ان مقالتك في العفو قد فتحت افقا جديدا في النظر والتفكير في قضايا الحرب والسلام والمصالحة والتعافي نكاد نلامس معها ذلك المستحيل الممكن . ولعل ما في ذلك القول الاصيل وفي ثنايا تلك الحكمة المتصلة والعبرة الكثيفة من سيرة تجارب العالم ما يفيدنا حقا في تجاوز مازمنا الاجتماعية والسياسية التي تطاولت فغشينا ما غشينا من ياس وقنوط.
لقد تداخلت في مقولتك حقول معرفية عدة تنوعت فيها المصادر والاحالات منها ما كان لغويا دلاليا ساقه جاك دريدا عبر منهجه الحفري، توصل فيها الى ان امكانية العفو كهبة وكمستحيل تظل قائمة دوما، وان تعاظم الجرم وتعسر التكفير عنه، فمادامت كلمة العفو حاضرة في قاموس الاستعمال والتداول اليومي بما تحمله في جذرها من دلالات الهبة والانفتاح على الاخردون اقتصاد. لقد تجاوز دريدا في نظرته تلك الرؤية الفرويدية التي تؤكد على اصل العنف والتوحش الكامن في مستودع النفس البشرية .كما ان تصويبك النظر على رؤية الفيلسوفة السياسية حنة ارندت حول ضرورة استعادة مفهوم العيش المشترك في اطار تعددي ، فالشر الجذرية في نظرها لاينبع فقط من اصل النفس البشرية كما اشار فرويد، وكما ارد مواطنو الدولة اليهودية في محاكمة الموظف النازي ايخمان في القدس شفاء لصدورهم من لما اقترف من جرائم لاتجد ما يناسبها من حكم قانوني، ويقابلها من تكفير لعظم هولها.ان ذلك الشر كما تقول ارندت نتاج لنظام شمولي سلطوي يبث دعايته الشمولية ويمارس فيها الموظف المسكين بيروقراطيته الاعتيادية دون ادنى تفكير ليغيب الضمير وتنعدم الحرية المسؤلة، والارادة الانسانية في اختيار الخير والصواب، ليتحول معها الموظف الى اداة طيعة للنظام مرتكبااقسى انواع الجرائم دونما تفكير. . ولعل اكبر سوءات الشمولية نشوء مجتمع متعازل يتعاظم الشعور بالظلم فيما بينهم وانهم ادوات وضحايا للدعاوى الشموليةو كلما تطاول بهم الزمن في ظلها اورث ذلك شللا وتعطلا في النماء الاجتماعي والتطور السياسي قد تدخل معا البلدان في اعقاب الثورة اوعبر الانتقال في دوامات الصراع بين النخب او الجماهير اذ ان تلك المكونات ومؤسساتها لم تتهيء في ظل التسلط الى فعل سياسي توافقي بناء ومثمر.
استعادت اوروبا روحها الدينية المسيحية المتاسمحةعبر تاريخيها في قضية العفو والغفران اثر تلك الحروب الدينية الطائفية الكاثوليكية البروتستانتية فكتب جون لوك كتابه رسالة في التسامح في اوج ذلك الصراع، اشار فيه ان التسامح الديني يستلزم الا يكون للدولة دين، لان خلاص النفوس من شأن الله وحده . ويقتضي التسامح الديني اقصاء دوغما الايمان الديني بحجة ان التسليم الايماني لايمكن التحقق من صوابيته قولا ومحاجة. تلك الاستعادة الدينية لمفاهيم العفو والمصالحة وان كانت ذات دفع واثر ديني مما تحمله الثقافة الاوربية من بقايا اصول المسيحية، الا ان تلك الاستعادة قد تشكلت في افق التنوير الاوروبي بعقلانيته الى رسمت ملامح وتصورات ذلك العصر النهضوي. فالدين ينبغي ان يكون عند حدود وتخوم مجرد العقل كما قال كانط.لم يق ذلك الاسئناف الديني العقلاني لمضامين العفو والتسامح من سقوط اوربا في حروب مدمرة اخرى وسمت بالعالمية لكنها في هذه المرةكانت تحت شعارات القومية ودوافعها الذاتية التي تنفي وجود الاخر.
لقد كان ايمانويل لايفيناس اليهودي اللتواني الذي وقع في الاسر وعانى من ويلات الحروب محطة اخرى من محطات اسئناف الدينية في مسار التعافي والعفو بحثا عن الاخر المفقود في القول الفلسفي فمن ظاهرية هوسرل ووجودية هايدغر اهتدى لان تكون الاخلاق او الايطيقيا الفلسفة الاولى، بما هي علاقة مع الاخر في غيريته التي تكمن هناك بعيدا عن الذات، والتي ما تلبث ان تولد المسؤلية تجاهه مواجهة بالوجه الذي يرمزللنداء والتعالي طالبا الاستجابة . ان معرفة الاخر في نظر لايفيناس تقطع مع العزلة الذاتية وتلك الانانية التى وسمت النظام المعرفي الغربي مخلفا وراءه كل ذلك الدمار من صراعات وحروب ودوائر عنف تقوم على اساس الهوية. العنف ينمو دوما عندما يتعمق احساس بالحتمية حول هوية يزعم انها فريدة .
وفيما يبدو من تلك السيرة الاوروبية ان الدين بمفهوماته وشموله قدريلازم سيرورة الحياة الانسانية لافكاك منه ولا انفصال عنه. فمهما استغرق الانسان في دهرانتيته الفكرية وتوحل في ذاتيته ومركزيته الزائفة فان الدين بمفهوماته ومسموعاته حول العفو والتسامح ونبذ العنف يستأنف عودته في الوعي الانساني من جديد . فبعد ان كان متهوما بانه وراء تجارب الارهاب والصراع ها هو يستعيد حضوره في حقل المعرفة الانسانية الخصب , استسلمت الحداثة اثر ذلك لضرورات مقبولية الدين في الفضاء العام واقامة الشأن الانساني المتشعب على اسس الحجاج والتواصل. لقد شق الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن طريقا وعرا عبر فلسفته الائتمانية مزاحما منقول التجارب الفلسفية الاوروبية عبرسلسلة كتاباته حول الحوار والتواصل والحجاج و سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية مقاربا رؤية ايمانويل لافيناس في علاقة الحوار بالمسؤولية عن الاخر، واصفا لها بانها تغطي اصلها الديني التوراتي بلباس العقلانية المجردة نظرا لذلك الطغيان الكثيف لسلطان العلمانية في مجتمعه.
الدولة القومية التي ورثناها في اعقاب الاستعمار كان لها سهم بارز في تأسيس العنف وما يقابله من نظام تسامح قسري مفروض. فمنذ تأسس فكرة الدولة القومية عبر مملكة قشتاليا التي كانت تسعى لفرض الانسجام الثقافي في إطار ها. قضت محاكم التفتيش و المراسيم الملكية الإسبانية المسيحية بطرد المسلمين واليهود او اكراههم على تغيير ديانتهم. ثم تطور الأمر في ذات الشأن عبر معاهدة ويستفاليا التي نصت على مفهوم التسامح مع الاغلبية السكانيةاستبقاء لوجودهم وضمانا لسلامة عيشهم مقابل الا يثورو في وجه الملكية المسيحية الناشئة. ومضت رحلات الكشوف الاستعمارية على ذات النهج تجوب القارات وتسعي لفكرة التطهير بحثا عن الانسجام والتوازن في إطار الدولة. ساق تلك الفكرة محمود ممداني مدرجا نماذج استعمارية عدة كنموذج الهنود الحمر في أمريكا وتجربة جنوب أفريقيا مع السود مرورا بالقضية الفلسطينية التي نشهد ماسي شعبها حتىالان..
لقد صنع التسامح العلماني في اطار الدولة الحديثة بصورة قهرية، اعتملت فيها توازنات البقاءو التسالم الحذر. . . . نشات فيهاالآقليات، الاقلية في إطار الدولة لاتعني بالضرورة العدد بل تشير الى من فرض عليه نظام قوة الدولة العنيفة ولو كانت اكثرية كما في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا . فيما يبدو أن التفسير الفايبري لفكرة الدولة والسلطان بما تحمله من مدلولات الاستقرار والقوة قد تجاوز حدود احتكار القوة إلى العنف المفرط. إذ يعتقد البعض ان الدولة بوصفها تجمعا سياسيا يحق لها اللاستئثار باستعمال العنف المشروط على ارضهاا، فثمة فرق بين بين مفهوم القوة الذي يرمز للثبات والقرار ومفهوم العنف الذي يتجاوز القوة.
لم يبق حال الدولة القومية على ماهو عليه، بل مضى متطورا في سياق منضبط يعالج ما يتعور مسارهامن اعوجاج .
فمع اصطراع الطبقات ونشوء التيارت الفكرانية، اعتدلت الليبرالية المنفعية المتوحشة بضغوط الاشتراكية وتطورت الاشتراكية متجاوزة الماركسية كمنهج احادي في تفسير ظواهر الحياة. انطلقت مدارس الفلسفة الاجتماعية والسياسية في انتاج افكار تسعى إلى ميزان عادل بين قيم الحرية الفردية وضرورات العدل المجتمعي كما في كتابات جون رولز في نظريته العدل والعدالة كانصاف . تعود بنا فكرة العدالة إلى منظور أخلاقي يلغي حجاب الغفلة والجهل بين الناس فيما يميزهم ليردهم إلى اصالة الخير والانصاف في نفوسهم. المساواة اصل متجذر في النفوس قبل أن تشوبها شائبات المكاسب التي تميز الناس على اساس الطبقة او العرق او الثروة. ان تلك المبادئ الخيرة عند جون رولز تسمو فوق القانون وسلطته يجوز لنا ان نسميها مبادئ فوق قانونية يأتي القانون فيما بعد ليثبتها. ولعل تلك الصورة الأخلاقية تقترب جدا من الإسلام وفكرته الأصيلة حول الشريعة.
يندرج مفهوم الاعتراف متواشجا مع جملة مفاهيم العفو والتسامح والغفران ذات الحضور الديني الكثيف. الاعتراف في المسيحيةمن أجل التخلص من أثقال الخطيئة ومحوها، الاعتراف يقضي على نزعة الشر في نفس الانسان. وفي الإسلام والقرآن تندرج كلمة الاعتراف بمعان عدة قد تأتي بمعنى الإقرار والاعتراف بالذنب.( قالوا ربنا أمتنا اثنتين واحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل )، وفي قوله تعالى( فاعترفوا بذنوبهم فسحقا لأصحاب السعير)وقد تشير في جذورها من عرف إلى المعرفة( وادخلهم الجنة عرفها لهم)، و تعود الكلمة في سياق اخر مرتدة إلى جذر العرف الموصول مع كلمة العفو… ( خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين)وقد تتحرك إلى معنى المعروف دعوة للائتمار وائتمرو بينكم بمعروف في الشأن الاجتماعي وفي السياسة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تداعت تلك المعاني في جملتها منفتحة على علوم الفلسفة والاجتماع لتأخذ بعدا أكثر عمقا واجل وصفا لتشترك في معنى البحث عن قيمة العدل، عند افلاطون الذي اعترف بحق الجماهيرفي ان يكون لهاصوت عبر الديموقراطية وهيجل في رؤيته حول النضال والصراع من أجل الاعتراف، وميكافيلي في نظره ان الاعتراف يتيح كسب الاخر ومعرفته مما يفيد ويفلح في تفادي الصراع . وبول ريكور في الحقل الدلالي التأويلي يفسر فيها الاعتراف بأنه شرط قبلي لممكنات المعرفة الموضوعية للآخر ، وصولا عند مدرسة فرانكفورت عند اكسل هونيث التي تمثل ثمرة وجماع ذلك المحصول المعرفي. الاعتراف يقتضي العدل الرمزي او الاعتباري، فتجارب الجور التي أصابت فئات من المجتمع وماتحمله من مشاعر الاذلال تستدعي ذلك النوع من الاعتبار الذي يعيد الكرامة الإنسانية،، ويهيئ النفوس للتراضي، ويتيح لها إمكانات التواصل من بعد قطيعة وعنف. العدل الرمزي ذو قيمة معنوية تتعدي ذلك العدل المادي الموصول بالحقوق والمطالب. كانت اتفاقية نيفاشا للسلام نموذجا لذلك فبعد الاتفاقية شاهدنا انفتاح المجتمع الجنوبي على الجميع، إذ تولد شعور جمعي بالرضا ورد الاعتبار من قبل الجنوبين ، شاهدناهم في الأسواق والمطاعم والمؤسسات العامة أسوة بمواطني الشمال، ذلك الاحساس بالعدل للرمزي والاعتراف بعد العدل المادي الحقوقي، كان يمكن يحقق تلك الوحدة الجاذبة لو استطالت مدة الاستفتاء الشعبي لتقرير المصير لأكثر من سنواته المقررة، ولمنع ذلك حدوث نزعات انفصالية اخرى.
في اعتقادي اننا كثيرا ما تفوت على انفسنا النظر في حالات السلم، فالطبع الغالب هو حالة السلم والتسالم، قد لايجلب السلم النظر، لكن الحرب تجلب كل نظر وتستدعي كل تحليل. الحرب تجلي لوجود الذات ، يبحث فيها كل شخص عن هويته ووجوده كما يقول لايفيناس. ان معالجة قضايا الظلم والاندماج ورد الاعتبارمن صميم مطلوبات الأمن الاستراتيجي القومي، فالجميع ينبغي أن يستووا في الحقوق، والمناطق الاقل تطورا ينبغي أن تتحرك إليها عجلة التنمية والتعليم حتى لا تكون بؤرة للاضطراب والفوضى التي قد تعصف بالمجتمع والدولة. لعلنا اليوم نعيش آثار ذلك العنف في اوطاننا، ونقف على واقع مجتمعات تعيش الانقسام، تتصاعد فيه مشاعر الغبن، ويرتفع فيه سور حجاب الجهل العازل.
في خاتمة الأمر نقول اننا نقف على رصيد وافر من المعارف والتجارب بعضها من أصول ثقافتنا وبعضها من تجربة الإنسان، بامكاننا ان نستثمر ذلك كله في الإصلاح السياسي وفي إعادة بلداننا نحو منصة التأسيس من جديد.

التعليقات مغلقة.