بدون زعل : من يشترى تفاح الباوقة ، إذن ؟
عبدالحفيظ مريود
كان نهاراً حاراً ،فى نهاية الشهر الثالث للحرب. رجعت مع شيخ أزهري من الشهدا. ظل طوال الثلاثة أشهر ينبهنى إلى أن أترك هاتفى الذكى فى البيت، دون جدوى.
ونحن فى سوق الشجرة بأبوروف ، أمدرمان ، أذن مسجد إسماعيل أبوسمرة للظهر.. تركنا كيس السلطة مع سيدة ، ست الشاى ، لتجهز لنا الفطور. سأدخل البيت ، أضع كيلو اللحمة فى الثلاجة ، أتوضأ ، وألحق بأزهرى فى المسجد.
كان بيت المال وأبوروف قد صارا حيين من الأشباح. هجرهما أغلب السكان ، ومن بقى لا يغادر بيته إلا لماما. لملم التجار بضائعهم وهجروا السوق. كنت تسمع نهاراً وليلاً أصوات رصاص يتم إطلاقه على أبواب البيوت ، أو شواكيش ومرزبات للبيوت المحكمة الإغلاق.
وضعت كيلو اللحم فى الثلاجة ، توضأت ، خرجت. وأنا أدير المفتاح لأغلق الباب الخارجى ، سلم على رجل ستينى ، يحمل عصاة ، ومر. لاحظت فى شارعنا ، شارع أبوسمرة ، جوار الإرسالية السويسرية ، الخالى من أحد إلا الرجل الستينى ، أن هناك شابين يافعين فى العشرينات ، قادمان نحوى. يرتديان ملابس مدنية كاملة ، ويحمل واحد منهما كلاشينكوف ، والآخر مسدسا. أحدهما يرتدى جاكيت الدعامة. إستوقفا الستينى ، سمعتهما يستجوبانه ، كما سمعت أحدهما يصفر منبها. التفت ، فأشار إلى أن :”توقف”.
حين وصلا إلى ، تأكدت أنهما فى العشرينات ، فى عمر أبنى الكبيرين : محمد ومحمود. الأسئلة المعتادة : جاى من وين ، ماشى وين ، ساكن وين ، شغال شنو. بتكون بتاع إستخبارات. أرفع يدينك نفتشك… من لهجتهما ، كردفانيان ، بقاريان ، نواحي أبوزبد ، لقاوة…الخ.
فى التفتيش حصل أحدهما على هاتفى.. أفتح تلفونك دا.. فتحت القفل ، وضعه فى جيبه.. أطلق رصاصة فى الهواء.. دا مش بيتك ؟ نعم… أدخل يللا… كلكو كيزان مع …. وسيل من الألفاظ.. الآخر أخرج بخاخ الأزمة فيتولين من جيبى ، وشهر سلاحه ” دا شنو يا عمك؟”.. كان جادا فى خلعته ، حيث ظن أنه جهاز تنصت ، إتصال..أى شيى… صححه الآخر وطمأنه ، بأن هذا “علاج سكرى”.. عمر سلاحه مرة أخرى ، وأوشك أن يصيبنى، حين طالبت بهاتفى.. أجبرانى على الدخول ، بلا جامع معاك… صلى فى بيتك… كيزان…… ضاعت الشريحة ، الأرقام ، حسابات التواصل الإجتماعى ، والأهم تطبيق بنكك الذى يستقبل إعانات الأصدقاء ، آخرها تحويلة من صديقى يوسف إبراهيم.
شايف كيف ؟
قبل يومين ، ظهرا ، أيضاً ، سمعت صوت آلة على باب البيت.. ثمة أحد يحاول أن يكسره.. رفعت صوتى “نعم…جاييك”.. صار يطرق مثل أى ضيف.. فتحت ، كانوا ثلاثة ، إثنان أمام الباب ، والثالث على الموتر. .تفضلوا.. دخل الإثنان ، سألا أسئلة لا قيمة لها : دا بيتك ؟ معاك منو ؟ فى سلاح هنا ؟ ثم خرجا.. لكن بيوت جيراننا جميعاً تعرضت للنهب ، التكسير، وسرقت العربات.
شايف كيف ؟
فى اليوم الثانى ، اتفقت مع جارنا أنس ، فى بيت المال أن نترافق..هو سيذهب إلى أهله فى الكدرو ، وأنا سأذهب إلى أمى وأخى وأولاودى فى الحاج يوسف.. أندلعت الحرب والأولاد مع الحاجة ، لظروف وفاة شقيقى يرحمه الله.
كنت أحمل 76 ألف جنيه سودانى ، هى كل ما أملك.. أعطيت نسخة من المفاتيح لشيخ أزهرى ، ترافقنا وأنس إلى كبرى شمبات ، ركبنا الحافلة القادمة من سوق ليبيا ، ذاهبة إلى الحاج يوسف سوق 6. أول إرتكاز للدعم السريع بعد الكبرى ، صعد شاب منهم إلى الحافلة ، ألقى السلام ، وقال “أى زول هويتو فى يدو”.. أخرج الجميع هوياتهم.. كان يتفرس فى وجوه الركاب ، نزل وأمر السائق بالتحرك.
حدث الشيئ ذاته فى الإرتكازات المتبقية ، حتى الكيلو بالحلفاية.. أكتشفت أن خط سير مواصلات ليبيا – الوحدة تغير.. من المؤسسة يمضى شمالاً إلى الكيلو ، ثم السامراب شرق.
أنس نزل فى الكيلو ليذهب إلى الكدرو… قريباً من آخر محطة فى السامراب شرق، بدأت إرتكازات الجيش.. “أنزلوا تحت كلللكم… مع…. ين بتاعين دعامة”…ن زلنا ، إلا النساء.. أوقفونا صفاً، وبدأ التفتيش الشخصى.. كنت قسمت البضع وسبعين ألفاً فى جيبين… وإذ يفتش العسكرى ، ألمحه يأخذ ويودعها جيب الكاكى.. فعل ذلك مع القسمين، وحمدت الله أننى دفعت للكمسارى.. صعدنا ، لينزلنا الإرتكاز الثانى ، فالثالث ، فالرابع.. وحين فارقنا مناطق سيطرة الجيش ، باتجاه محطة 24 فى الشقلة ، بدأ ركاب الحافلة يتهامسون ، شالوا منى 25 الف ، أنا شالوا منى 7 ، أنا 26 ، وهكذا…عشان كدا الناس بقولوا لينا أدوا قروشكم للنسوان الفى الحافلة.. تحت بنهبوك.
شايف كيف ؟
فى يومين تم نهبى من قبل الدعامة ، أو مستنفريهم ، ومن قبل الجيش ، على حد سواء… بقيت فى الحاج يوسف أسبوعين ، حين قررت العودة لاتفقد بيت أبوروف.. كان متحرك من حطاب قد تحرك إلى 24 فى طريقه عبر “شارع الهوا” إلى كافورى ، فسلاح الإشارة.. المتحرك الذى تمت مضايرته من قبل الدعم السريع.. كان هناك الكثير من عساكر الجيش قد فروا ودخلوا بيوت الشقلة ، وشارع واحد.. شباب فى العشرينات… يسألون “الحتة دى وين؟”.. وحين يسكن روعهم ، تهدأ الأحوال يخبرونك أنهم من سنار، سنجة ، القضارف ” قالوا لينا ح تمشوا إرتكازات بس.. ما قالوا لينا فى معارك”.. سيخبرك سكان تلك المناطق عن ضياع شباب الجيش.. عن دفن الجثث ، فيما بعد… ذاك اليوم ، وأنا فى الحافلة راجع إلى أمدرمان ، بكيت بحرقة ، علم الله…تخيلت أنهم أولادى : محمد ، محمود وعلى… يا إلهى.
وراء كل شاب دعامى ، جياشى ، مستنفر ، هيئة عمليات قصة.. قصة لا يعرفها الآخرون… ثمة أم ، أب ، زوجة ، أولاد ، ينتظرون عودته.. ثمة أحلام موؤودة… بغض النظر عن شعارات المنظرين للحرب من الطرفين.. بغض النظر عن سرديات الطرفين.
شايف كيف ؟
ثمة ثروة هائلة نهدرها ، إذ ننفخ فى نيران الحرب.. غارقين فى الدعاوى المريضة.. كان يمكن تجنب كل ذلك.. كان يمكن إيقافه بشتى الطرق ، حتى بعد أن انطلقت الرصاصات.. لكن لا أحد يصغى.. انطمست البصائر.
كنت أفكر فى الشابين اللذين قلعا هاتفى.. فى الذين نهبوا قروشنا فى السامراب ، فى الخراب الكبير الذى حل ويحل بالبلاد ، فى الأرواح التى ستزهق ، إرضاء للوثة تعميك، اسمها الوطنية ، الدين ، الإنتقام ، الغنائم ، الديمقراطية ، طرد العملاء.
الواقع المرير هو الخسارات الفادحة.. فى كل شيئ.. وجدت بيتى فى أبوروف مكسوراً.. مقلوباً كله.. فقدت شاشتين ، إحداهما أمانة تركتها شقيقة زوجتى ، يرحمها الله.. ولابتوب إبنى على ، أهداه إياه خاله عصام أكرت ، حين تم قبوله بجامعة الخرطوم.. ثم لا شيئ.. قد يكون الآن خاليا من أى شيئ.
شايف كيف ؟
كنت أفكر : الشابان اللذان نهبا هاتفى لا يميزان بخاخ الأزمة عن غيره.. عساكر الجيش فى السامراب شرق لا يفرقون حين تدخل أيديهم إلى الجيوب ما إذا كانت تلك أموالك أم أمانة.. تحتاج إليها أم لا… عندك غيرها أم لا.
النساء اللآتى رأيتهن فى “بيت المال” ، فى الصافية ، الحلفاية ، يحملن محتويات بيوت هجرها أصحابها خوفا من الحرب.. كل ما حدث ويحدث : مسؤولية من ؟
لماذا ما يزال هناك من هو عاجز عن الذهاب إلى المدرسة ؟ لماذا ما يزال هناك من يسرق سيارتك لأنك لا تستحقها ؟ لماذا ما تزال هناك نساء يأخذن زينة أخريات من غرف نومهن ، حتى وهن موقنات أنهن لا يعرفن طريقة إستعمالها ؟ لماذا ما يزال هناك – بين السودانيين – من يؤمن أنك لا يجب أن تحيا على هذه الأرض ؟
شايف ؟
القصة أبعد وأكبر من أفق من يقف مع الجيش ومن يقف مع الدعم السريع.. أبعد من الإنتصار فى معركة أو الحلم بالعودة إلى بيوتنا.
القصة ليست هلال – مريخ… قليلون من ينتبهون إلى البنات والأولاد فى الشهدا ، زقاقاتها أو يخطط لمنع الظروف التى دفعت بهم إلى هنا.. ستركن سيارتك ليغسلها أحدهم… دون أن تحمل أعباء لماذا هو ليس فى المدرسة أو الجامعة… كما لن تكلف نفسك عناء أسئلة حول ظهور رشدى الجلابى ، مثلا… ستستمتع به.. هناك فى خلاء السودان ، فى بلداته الصغيرة وقراه ، من لم يحضر إلى أفق تفكيرك… ما هى الخيارات التى أوجدناها لهم ؟ ما هى الفرص المتاحة ، وفقاً لرؤيتهم ؟
الأنظمة التى صنعناها هى حجابنا…هى التى تحجب بصيرتنا.
فى ملامسة الإنسانى ، ستكتشف أننا بنينا سودانا على أخطاء جوهرية.. تراكمت.. تشعبت.. تناسلت… ولم نكن – وربما لا زلنا – قادرين على رؤيتها… دعك من إصلاحها… ستصلحها السنن الآلهية ، حتى ولو لم نرغب.
وأنت تعد فطورك ، فكر بغيرك…
لا تنس قوت الحمام.
أو كما قال محمود درويش.
* ملحوظة :ـ
الصورة تقول : ربما هناك وسيلة لإصلاح كل ذلك.
التعليقات مغلقة.