رؤية: أسامة ميرغني

ماسة نيوز: الخرطوم

 

كان فتح الخرطوم ١٨٨٥م ثورة شعبية مسلحة، وكان أهم عامل في نجاحها هو صدق القادة الذي صنع جسراً قوياً من الثقة مع الجماهير..
لكن بعد ١٣ عاماً دخل المحتل بعد صنع سلسلة من الأحداث ضربت في نسيج الأمن القومي المجتمعي، و لو لم يستطع المحتل بناء حاضنة سياسية لأجل دخوله أم درمان؛ حتما لما استطاع أن ينتصر في موقعة كرري.
لكن المحتل الإنجليزي استفاد من تجربة من أخطائه قبل فتح الخرطوم في ١٨٨٥م..
أولاً: *استطاع المحتل إيجاد منظومة تتقبل الوضع الجديد، بل وتدافع عنه*
إن تناول تاريخنا بجرأة وشفافية مطلوب لأجل معرفة الحقيقية والتي قد تفسر كثيراً من الأحداث اللاحقة، وتعرف بمسارات وحركة السياسة في السودان… فخلال أقل من عشر سنوات من دخوله، تمكن المحتل الإنجليزي من إكمال صناعة الحاضنة الجديدة التي تدين له بالولاء وتدافع عنه.
احتُلت الفاشر بعد احتلال أم درمان بثمانية عشر عاماً.. لكن كيف تمكن المحتل من إنشاء حاضنة سياسية مكنته من الوصول لمدينة الفاشر؟!!، مع العلم بأن إمداد الجيش الغازي كان واحداً من أكبر المعوقات ، خاصة وأنه واجه مشكلة إنعدام البطاطس كغذاء رئيس له في طريقه نحو الفاشر، و لكن للأسف وخلال فترة وجيزة تم زراعة البطاطس في مزارع كبيرة في شرق دارفور ، وتم إمداد الجيش الغازي بالوجبة الأساسية لقواته!.
وكانت الفاشر أول منطقة تقصف بسلاح الطيران في إفريقيا بعد الساحل الشمالي، وفي يوم ٦ نوفمبر ١٩١٦م دخلت قوات الاحتلال لمدينة الفاشر… وكان أول قرار اتخذه المحتل هو إعادة سلاطين باشا لإدارة دارفور (سلاطين باشا يهودي نمساوي حضر للسودان لدراسة كيفية إيجاد وسيلة أكثر فعالية لوقف إنتصارات قوات المهدية، ودخل أم درمان مع قوات المهدي لكن خليفة المهدي كان يعتبره دائماً محل ريبة فأسماه شواطين وشويطين) ..
نجح الإحتلال الانجليزي في نسج حاضنة سياسية من التناقضات، والقائمة على فكرة تعدد مراكز القرار ، فأصبح أهل السودان فرقاء بتعدد مراكز القرار (لا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم..)، ومن المفارقات أن أهل السودان تقبلوا بسهولة قيادات وافدة، أصبحت هي محل الحل و الربط في أمور البلاد!.. كان المحتل يلجم كل من يعتد بالثقافة والهوية السودانية (ولنا عودة بالتفصيل).. وفي أقل من عشرين عاماً أحكم المحتل سيطرته على البلاد بالمتناقضات القائمة؛ قوة تقليدية غير متجانسة، مقابل قوة حديثة متشاكسة!. واستطاع أن يحكم بهذه الآلية المصنوعة بأجندة حساسة وحسابات معقدة.
ثانياً : نجح المحتل في صناعة قوة مجتمعية سلبية مستخدماً صراعات التهميش والصراع من أجل العدالة الاجتماعية، وكذلك مستخدماً فكرة تعدد مراكز القرار …
فكان الذي يحدث عقب أي تغيير بثورة شعبية كما في أكتوبر ١٩٦٤م؛ أن يضعف التغيير ويصاب بالوهن بسرعة بسبب تعدد مراكز القرار في كل هيكل الدولة (مجلس سيادي _مجلس وزراء _تجمع النقابات و الهيئات).
وعقب ثورة إبريل ١٩٨٥م كان أيضاً خطر تعدد مراكز القرار قائماً (مجلس سيادي _مجلس وزراء _تجمع قوة نقابات العمال).
وكذلك الحال والتاريخ يعيد نفسه في التغيير الذي حدث في ٢٠١٩م (مجلس سيادي _مجلس وزراء _ قوى الحرية والتغيير)!.
والواقع في كل مرة هو “تغيير متحكم فيه عبر محاور خارجية”.
*لكن ما الجديد والمختلف في 2019م؟!*
قامت ثورة شعبية ضد فساد البشير و أسرته و طليعة المؤتمر الوطني المنحل، وصنعت تغييراً ثورياً، لكن وبكل أسف قام رئيس الوزراء بطلب وصاية خارجية على السودان! ، إلا أن الوصاية والبعثة الأممية لم تستطع أن تكون قوة على الأرض، على الرغم من أنها بدات عملها بتفويض مفتوح كما (شيك على بياض).
إن أحداث الفاشر الأخيرة كشفت ضعف وهشاشة الوضع السياسي _ الهدف من صناعة الحدث هو إيجاد قوة سلبية بفكر جمعي، لتنسف الفترة الانتقالية… وبحسابات من المستفيد من أحداث الفاشر؟!!، فقطعاً هي ليست في صالح القوات الموقعة على سلام جوبا لأنها هي الحاكمة في دارفور، وأي عدائيات أو أعمال عسكرية ستضعف الكسب السياسي لها.
أما الدعم السريع فالمتغيرات على المحاور الإقليمية والعالمية و المحلية، ليست في صالحه، وليس من مصلحته فتح جبهة قتال جديدة.. إذاً من المستفيد من صناعة قوة سلبية بفكر جمعي؟!!.. لاشك أنه هو الغائب الحاضر ، وهو الآن يعمل بسياسة الشد من الأطراف ؛ الشرق _جنوب كردفان _شمال دارفور، وهي حتماً آخر المغامرات العسكرية.
والمتوقع هو صناعة قضايا انصرافية تبدأ بانضمام السودان للمحكمة الجنائية الدولية (كأنما نجحت الحكومة في حل جميع مشاكل أهل السودان، ولم يتبق لها سوى الإنضمام للجنائية الدولية!)..
وفي داخل حدث الإنضمام المحكمة الجنائية الدولية تكمن رسالة موجهة للسيد البرهان حتى يتم إرباك المشهد السياسي وتعقيده.
والمحزن أنه في ظل هذا التعقيد المصنوع في السودان، فإن مؤسسات الدولة أضعف ما يكون، فهي في غياب تام حتى المدنية منها، في وضع مصنوع لصالح الوصاية الخارجية، والتي هي نفسها غائبة حتى على مستوى الإعلام!.
أحداث الفاشر هي ضربة جزاء محسوبة لصالح الوصاية الخارجية، لجعلها تحرز هدفاً في الدقيقة الأخيرة من المباراة.
وآخر القول؛ إن قضايانا سياسية وليست عسكرية أو امنية.

معاً لبناء السودان الجديد.

٨ اغسطس ٢٠٢١م
جريدة الجريدة

التعليقات مغلقة.