عثمان جلال يكتب: فوز جو بايدن نصر للثورة السودانية ولكن!

 

(1)
وضعت الإدارة الأميركية الديمقراطية بقيادة الرئيس السابق بيل كلينتون السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1993،في خضم تفاعلات تشكيل المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي والذي ضم حركات التحرر القومية والعربية بكل تجلياتها الأيديولوجية ، والحركات الاممية المناهضة للنظام العالمي الجديد والذي تشكل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وانهيار جدار برلين، وكان هدف العقل المفكر لنظام الإنقاذ إدارة حوار ثقافي وانساني طلق مع النظام العالمي الجديد عبر منصة المؤتمر الشعبي العربي لإعادة التوازن في العلاقات السياسية الدولية وإنهاء هيمنة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبناء شراكة عالمية جديدة قوامها تمكين الشعوب في الحكم، وإنهاء سيطرة الاليغارشية الرأسمالية العالمية، والغرس المشترك لذات شعارات النظام الدولي الجديد والمتمثلة في الحرية، والديمقراطية ، وحقوق الانسان)، ولكن العقل الغربي المسكون وقتها بنظرية صدام الحضارات، وكذلك التباين الفكري العميق بين زعيم الإسلاميين في السودان الدكتور الترابي وتلامذته وقاعدة الحركة الاسلامية، أدت في النهاية إلى زوال الفكرة والتجربة، ولم يبق منها إلا صدى الذكرى، واستدراك استراتيجي ان كانت ستتشكل التنظيمات الراديكالية مثل القاعدة وداعش لو استمرت تجربة المؤتمر الشعبي العربي كحاضنة فكرية وتنظيمية لإرساء الحوار الحضاري بين الثقافة الغربية والإسلامية؟؟
(2)
أراد زعيم الإسلاميين في السودان والذي زار الولايات المتحدة الأميركية في بداية التسعينات من القرن الماضي وأدار حوارا فكريا وثقافيا مع نواب الكونغرس الامريكي إزالة ثقافة الصدام الحضاري الطاغية في ذهنية الانتلجنسيا الغربية وترسيخ ثقافة حوار الحضارت والتأكيد أن ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة تماثل عصر الانوار والنهضة في أوربا، ولا علاقة لها بالتطرف والاصولية، كتلك الحركات الاصولية المسيحية، وبهذه الهمة الفكرية الوثابة، وعزم الكبار اراد الدكتور الترابي بناء المنصات التأسيسية للشراكة بين الحضارة الغربية، والصحوة الإسلامية الناهضة، وأراد كذلك دفع ثقافة الحوار الفكري والسياسي بين نظام الانقاذ، والقوى السياسية الوطنية في الداخل لإنهاء حالة الطواريء التي جاءت بانقلاب الإنقاذ عام 1989م وعودة الجيش للثكنات والتوافق على النظام الوطني الديمقراطي الجديد، ولكن تبدد هذا المشروع الخلاق ، وانتصرت ارادة وذهنية الصدام مع العالم الخارجي، ومع الشركاء في دولة الوطن.
(3)
سيادة ثقافة الصدام والمنازلة داخل نظام الإنقاذ مع الآخر في الداخل والخارج في المحيط الإقليمي والدولي أدت إلى انسحاب تيارات المبدعين والمفكرين من النظام، وصعود التيارات الشعبوية الهتافية، والتى انتهى صدامها مع المجتمع الإقليمي والدولي إلى عزلة السودان سياسيا،وثقافيا ودبلوماسيا ، واقتصاديا، وانتهى صدامها مع الشركاء في دولة الوطن إلى تخريب الاقتصاد الوطني، واضطراب في بنية المجتمع الهشة، وفصل الجنوب، وحالة الخلخلة الأمنية والهوياتية في دارفور، والشرق، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، مما نذر بصراع الهويات القاتلة، وقابلية تفكيك السودان إلى دويلات أو الوقوع في أتون الحرب الأهلية الشاملة، حتى عندما أدرك العقل الشعبوي المركزي داخل النظام السابق الخطأ الاستراتيجي والمتمثل في النتائج الكارثية المتراكمة لثقافة الصدام والمنازلة مع شركاء الوطن، والعالم الخارجي والتي كادت ان تعصف ببيضة الدولة السودانية الهشة اصلا ، جنح إلى المعالجة الكسولة والهادفة إلى استيعاب خصومه السياسيين في درجات وظيفية سيادية وعليا في الأبنية المؤسسية للنظام دون معالجة عميقة للخلل البنيوي لدولة ما بعد الاستعمار الوطنية، وطفق كذلك العقل الشعبوي المركزي داخل النظام للمصالحة مع المجتمع الإقليمي والدولي لتسويق مشروعه السلطوي الذاتي في ثوب جديد لا يخلو من الميكافلية السياسية، ولذلك فإن الثورة السودانية انفجرت في مخاض تاريخي وصل فيه السودان مرحلة الانسداد والانحدار في قاع الهاوية بعد ان استنفد العقل المركزي للنظام السابق كل الحيل الشعبوية لإطالة امده في الحكم،فكانت الثورة طوق نجاة للسودان من سيناريو التفكيك والحرب الأهلية الشاملة، والعبقرية الثورية تقتضي من قوى الثورة السودانية النأي عن إدارة المرحلة الانتقالية الراهنة ، ومهام التحولات الديمقراطية الكبرى بذات العقلية الشعبوية السابقة لأن هكذا عقلية وسلوك سياسي سينتهي اما الى حرب أهلية أو اختطاف الثورة من قوة الردة، بعد التفويض من ذات المجتمع الذي صنع الثورة مقابل الأمن الاجتماعي وتكرار التاريخ حمق وقلة عقل.
(4)
ان فوز الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بشعاراته المثالية والمتمثلة في إعادة اللحمة للأمة الأمريكية وصيانة فسيفساء تنوعها العرقي والديني والثقافي كبواعث للوحدة الوطنية ومصادر عظمة تفوقها العالمي، وتمثل كذلك بعث لصورة أميركا الملتزمة دوليا بالديمقراطية،ودولة العدالة والقانون، وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تمثيل ذاتها في الحكم، على الرئيس الشعبوي والسمسار الدولي المنتهية ولايته ترامب والذي شكلت ولايته في الحكم مرحلة قطيعة تاريخية مع شعارات أمريكا المثالية والتي اكتسبتها العظمة والسيادة في عالم ما بعد الحرب الباردة حيث جنح دونالد ترامب لحماية الانظمة الاستبدادية،والطغاة في العالم العربي مقابل المال، واستمرار التفوق الإسرائيلي الشامل في المنطقة، فصعود بايدن للحكم بهذه الشعارات المثالية، إضافة للاتحاد الأوربي الملتزم أيضا بقيم الديمقراطية والحكم الرشيد، يمثلان عنصرا قوة ودعم للثورة السودانية،وكبح لجماح المحور الإقليمي العربي وحلفاءه في الداخل اللذان يسعيان لوأد الثورة السودانية، ولكن يبقى كعب أخيل الثورة السودانية حالة العجز الذاتي الداخلي والمتمثلة في غياب القائد سواء القائد الكارزمي الملهم أو القيادة الجماعية واعني بذلك قوى الحرية والتغيير باعتبارها الطليعة التي تصدت لمهام الثورة، ولكن أدخلت البلاد في حالة من الأزمة الثورية المستمرة عندما ضنت عن واجبها الاستراتيجي والمتمثل في إنهاء ثنائية الاستقطاب الثوري المضرة، وحشد كل قطاعات المجتمع السوداني الفكرية والسياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في كتلة تاريخية وطنية كبرى ومستمرة حتى تستوي الثورة السودانية على جودي النظام الديمقراطي المستدام، وغرس شعاراته،حرية، سلام وعدالة في وطن يسع الجميع.

التعليقات مغلقة.