عبد الله مكي يكتب : التطرف الفرنسي
ما الذي يجعل دولة كبرى – في قامة فرنسا – يتذكر رئيسها فجأة أنّ له مواطنين ينتمون لدين غير الكاثوليكية ؟
وهل نسيت فرنسا (عقيدتها اللائكية) والتي تقف – حسب دستورها ونظمها – على مسافة واحدة من كل الأديان ؟ أم علمانية فرنسا والتي وصفها الأستاذ المحبوب عبد السلام في إحدى حواراته بـ(المتخلفة) فهي لا تشبه العلمانية الأمريكية أو البريطانية – حيث تفصل بين الدين والحياة العامة، بما فيها المدارس التعليمية، حيث تمنع الرموز الدينية للطلاب من كل الديانات (كما حدث للطالبتين المسلمتين المحجبتين، والطالبات الراهبات بزيهن المميز).
فهل تضعضعت هذه العلمانية وتحولت فجأة إلى تيار مضاد للديانة الثانية في فرنسا(الإسلام بعدد يبلغ ستة ملايين مسلم)؟ أم نسيت فرنسا تاريخها العلماني المضاد للأديان كلها ورفضها لقيام أي دولة على أساس ديني؟ مع انها أنشأت للمسيحيين دولة في لبنان بدايات القرن العشرين، كما يقول الأكاديمي الفرنسي البارز فرانسوا بورغا.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُحذر(من مسلمي فرنسا) ويصفهم بـ” المجتمع الموازي ” وبأن الإسلام يُواجه “أزمة ” في جميع أنحاء العالم، إضافة إلى تصريحاته الأخيرة بأن بلاده لن تتخلى عن ” الرسوم الكاريكاتورية ” المسيئة للإسلام والنبي محمد، وكما يقول
أنيس العرقوبي في مقال له بعنوان : (فرنسا والإسلام : تاريخ العلاقة ومحركات الأزمة) :” تصريحات الرئيس الفرنسي تجاه الإسلام والمسلمين ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة ودعمه لمجلة شارلي إيبدو وصورها الكاريكاتورية لن ينقطع”.
فهل يا تُرى هذه(حمى المشاكل الداخلية)أم انتابته(حمى الإنتخابات) كما ظهر جلياً قبيل جولة الانتخابات البلدية في فبراير 2018عندما صرح بأن “جزءاً من المجتمع يرغب في استحداث مشروع سياسي باسم الإسلام “مستخدماً في غير مناسبة مصطلح ” المجتمع المضاد ” كما أوضح العرقوبي.
في الفترة الأخيرة تعود العالم سنوياً على أحداث دموية تقع في فرنسا، ومن ثم تكون البرامج التلفزيونية – خاصة الحوارية منها – وكذلك المقالات الصحفية، تدور حول(أحداث باريس الأخيرة) ولكن أقوي برنامج عبر عن الأحداث بقوة وشفافية عالية استضافه القسم العربي بالتلفزيون الألماني (DW) وشارك فيه عدد من الصحفيين العرب وكانالبرنامج حول(أحداث باريس الأخيرة) ويعنون بها ما حدث لصحيفة (شارلي إيبدو) الأسبوعية الساخرة، والتي استخدمت (الكاريكتور) للإستهزاء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أدلى الصحفيون المستضافون بإفادات قوية تنم عن خبرة ومتابعة لما يدور في المجتمع الأوروبي من أحداث وتطورات، فيما يتعلق بمعاملة المهاجرين خاصة المنحدرين من العالم الإسلامي والوطن العربي.
د. عدنية شبلي الكاتبة والباحثة الفلسطينية قالت بكل وضوح: إنّ سبب الإرهاب هو (التطرف الفرنسي) وليس التطرف الإسلامي، أما الصحفي عبد الرحمن عمار فقال : إنّ فرنسا تحصد نتيجة سياساتها منذ الخمسينات، أما ناصر جبارة المتخصص في الشؤون الأوروبية، فيقول : إنّ فرنسا تُشارك في معظم الحروب خارج أرضها خاصة ضد العرب والمسلمين، الأمر الذي يجلب لها المخاطر داخل حدودها.
ولكن ما هي وجهة نظر الفرنسيين ؟ أولاً : مثَل لهم هذا الحدث صدمة كبيرة، حيث يعتبر الفرنسيون أنفسهم (أساس حرية التعبير في العالم) واعتبروا الحادث خسارة نوعية من حيث أنًهم فنانون مبدعون، وكذلك اعتبروه خسارة كمية (اغتيال هذا العدد في ليلة واحدة) بينما فقدت فرنسا في كل حملتها العسكرية على (مالي) خمسة جنود فقط.
أم أشهر ردود الأفعال فتمثل في تحرك المجموعات التي لها عداء مع عموم المهاجرين – خاصة المسلمين منهم – وارتفعت أصوات اليمين المتطرف، وظهرت إلى السطح من جديد المجموعات التي تُحارب وتُقاوم ما يُسمى بـ(الإرهاب الإسلامي) وظاهرة (الإسلاموفوبيا) لذا تمت اعتداءات على المساجد والمراكز الإسلامية. بينما أدان المسلمون الحدث باعتباره عملاً إرهابياً، ولا يمت للإسلام بصلة، واعتبر إمام مسجد باريس القتلى شهداء.
فرنسا ظلت دوماً غير وفية لشعارات ثورتها والتي تتحدث عن (الإخاء والعدل والمساواة) .فقد استمرت عمليات القتل والإعدامات والإنتقام حوالي مائة عام بعد قيام الثورة.
ففرنسا هي التي احتلت واستعمرت نصف العالم العربي بجيوشها في القرنين التاسع عشر والعشرين، فاحتلت الجزائر عام 1830 تلتها معاهدة باردو في تونس عام 1881 ،والمغرب في 1912 وسوريا ولبنان في 1920.
وفي هذه الفترة، أبرمت فرنسا وبريطانيا اتفاقية سايكس بيكو في 1916 لاقتسام (الدولة العثمانية) وعملت فرنسا على طمس الهوية الثقافية لتلك البلدان، وباشرت حروبها الشرسة تجاه الدين بضرب المساجد والمدارس القرآنية، وشيدت أول مدرسة للتبشير بالمسيحية عام 1836 (الجزائر) وجابهت حركات المقاومة الوطنية بالقمع والتنكيل والقتل فسقط في الجزائر حوالي (1.5 مليون شهيد) ، حتى أصبحت تُعرف ببلد (المليون شهيد).
وجندت المواطنين في الحرب العالمية الأولى حيث شارك فيها (173 ألف جزائري) و(58770 تونسي) و(25000 مغربي).
كما شارك العرب والمسلمون وخاصة المغاربة منهم في الحرب العالمية الثانية بعد أن جندتهم فرنسا قسرياً في صفوف جيشها مستغلة الحاجة والفقر، وكذلك في الحرب الفيتنامية الفرنسية. وشاركت في معظم الحروب على العالم الإسلامي والعربي في (أفغانستان والعراق وسوريا ومالي).
فرنسا التي تتمشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تتحمل ديمقراطيتها وعلمانيتها (نصف متر من القماش) تضعه طالبتان مسلمتان على رأسيهما، وكذلك الطالبات الراهبات، بالرغم من أنّ الحرية الشخصية من أبجديات الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان.
وأخطر دور تقوم به فرنسا هو وجود (مراصد فكرية) لرصد الأفكار في الشرق، خاصة الايجابية فيتم تفريغها من محتواها أو حرفها عن مسارها، كما يقول بذلك المتخصصون في الشؤون الفرنسية، والذين درسوا في أرقى جامعاتها(السوربون).
أما التعامل مع الحركات الإسلامية فتُوجد مدارس مختلفة في العالم الغربي وفرنسا، بالذات التي تصل للحكم عبر صناديق الاقتراع، كما يفصل ذلك الأستاذ المحبوب عبد السلام:
فهناك من يرى تركهم للوصول للحكم واعطائهم الفرصة كاملة دون مساعدتهم لأنهم – كما يقولون – حتماً سيفشلوا.
ومنهم من يرى مساعدتهم وتثبيت الديمقراطية والقيم الإنسانية حتى لا يفشلوا.
ومنهم من يقول: اقتل الذئب صغيراً قبل أن يكبر فيأكلك.
وخير مثال لذلك ما حدث في الجزائر في انتخابات 1991 والتي اكتسحت جولتها الأولي الجبهة الإسلامية للإنقاذ برئاسة عباسي مدني وعلي بلحاج، بنسبة تفوق ال75%، مما أدَى لقيام انقلاب عسكري قبل الجولة الثانية بدعم كامل من فرنسا.
لقد أفرزت الأكاديمية الفرنسية عدداً من الباحثين متخصصين في الإستشراق والإسلام، بل هناك متخصصون في الحركات الإسلامية وعلى رأس هؤلاء: فرانسوا بورغا وأشهر مؤلفاته : (فهم الإسلام السياسي، والإسلام السياسي في المنطقة المغاربية، والإسلام السياسي في زمن القاعدة) ، ومنهم : أولفييه روا، وأشهر كتبه: (تجربة الإسلام السياسي، وفشل الإسلام السياسي، والجهل المقدس)، وأخيراً جون كيبيل، وكتب عن (الجهاد) .
إنّ قتل الأبرياء والمدنيين لا يُؤيده دين أو عُرف، فلذلك ليس هذا هو الموضوع، ولكن لماذا الكيل بمكيالين ؟ وسياسة إزدواجية المعايير ؟، ففرنسا قتلت أو شاركت أو ساهمت أو سكتت عن قتل العشرات والمئات والآلاف في كل من مالي وأفغانستان والعراق وسوريا، وفي أحداث غزة الأخيرة قُتل حوالي(1500) معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين – أي عشرة أضعاف الذين قُتلوا في باريس – وفي الجزائر وحدها قتلت فرنسا مليون جزائري، فإذا تعامل المسلمون والعرب وأسر الضحايا وما تُسميهم فرنسا بـ(الإرهابيين) بالمثل وبمنطق الآية الكريمة : ” فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم “، فإنّ فرنسا موعودة بملايين القتلى.
وحتى نحمي الإنسانية من إراقة هذه الدماء على فرنسا وشقيقاتها من دول الغرب وأمريكا أن تلجأ للحوار بدلاً عن الصدام، وأن تكون هناك عدالة في النظم والعلاقات الدولية، وأن تُوقف فرنسا آلتها الإعلامية من السخرية والإستهزاء بالأديان والرسل، وكذلك عليها وقف طيرانها وجيشها من قتل الأبرياء ومن دعم الحكومات المستبدة والتي تقتل وتقمع شعوبها.
فإن أرادت فرنسا أن تعيش في سلام فلتُطبق شعارات الثورة الفرنسية على الجميع، وليس لمواطنيها وحدهم.
قبل الوداع
يقول الشاعر العراقي أحمد مطر:
زاد الحســاب على الحساب
وآن تســـديــــد الحســـــاب
فلتــذهب فرنسا عن فرنسا
نفسها إن كان يُزعجها الحجاب
عبد الله مكي
amekki2005@gmail.com
التعليقات مغلقة.