أمامة الترابي، تكتب: كلما أنبت الزمان قناة…

بنو البشر في سعي دائم للسيطرة أفراداً كانوا أو جماعات ولا شك أن سعي الكيانات للسيطرة يكون أشد وأفعل مع تطور شكل الدول الحديثة تلك التي لها أجهزة تعنى بتسهيل أمر السيطرة على الآخرين، وخصوصاً الأعداء، بالوسائل الناعمة بجانب الوسائل الأخرى الخشنة والمعلومة كالجيوش والقوات النظامية المدافعة عن الموارد والمكتسبات أو المهاجمة طمعا في اكتساب المزيد من الموارد. تتصل مهام تلك المؤسسات (الناعمة)، رسمية كانت أو خلاف ذلك، بإدارة المعلومات بشكل أساسي وتظل المعرفة هي مركز حركتها وتنافسها من حيث امتلاك المعرفة لنفسها وحجبها عمن خلافها (أعدائها) وأكثر من ذلك بسعيها لتشكيل معرفة الناس (عامة الناس) سواءً كان عامة الناس أولئك من مواليها أو ممن سواهم (مناوئيها). ويمكننا باختصار غير مخل أن نقول بأن الأمر يتعلق في خلاصته بالمعلومات ، ما نعرفة وما لا نعرفه وما نعلنه وما نسره وما نروج له وما نهمله أو ندسه.

ظهر مصطلح التضليل (التضليل الاعلامي) بصورة رسمية لأول مرة في الاتحاد السوفيتي (سابقاً) في بدايات القرن العشرين وهو يعني التضليل المتعمد باخفاء المعلومات الحقيقية وبث الكاذبة بدلا عنها أو التشويش عليها بمعلومات أخرى خاطئة أو انتقاصها بشكل أو بآخر ويكون كل هذا بصورة متعمدة تهدف للسيطرة على الرأي العام! انتقل المصطلح لاحقاً ليظهر في اللغة المتداولة في العالم الغربي رسمياً (القواميس) في ثمانينات القرن الماضي مما يعطي القاريء فكرة عن بداية التعامل الفعلي بالمفهوم بين معسكري الشرق والغرب اللذين مثلا قطبي العالم خلال القرن المنصرم. لا شك أننا نتحدث هنا عن التضليل الاعلامي (المعلوماتي) المتعمد ولا نقصد بأي حال من الأحوال الأخبار أو المعلومات الخاطئة المنقولة بشكل غير متعمد. ولا بد أن ننتبه أن أسلوب التضليل بالمعلومات، في أساسه، قد يكون قديماً قدم الحركة والنشاط الإنساني على الأرض ولكن انتظام المؤسسات المعنية بممارسته وتقنينها وكينونتها كأجسام أساسية في أجهزة إدارة الدول هو أمر حديث نسبياً ويهمنا هنا أن نتحدث عن شيوعه (شيوع التضليل) وانتشاره بانتشار وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة والمتنوعة ذات الأثر الأبلغ على مناحي حياة الناس في ثقافتهم ومعاشهم ونشاطهم التجاري وتوجهاتهم السياسية والدينية ومعتقداتهم الدافعة لسعيهم في المجال العام بل وحياتهم الخاصة والشخصية جداً.

في مجال المعلومات هذا، كثيرا ما نلاقي قنوات أعلامية (قناة تلفيزيونية أو صحيفة أو إذاعة أو موقع اسفيري) تتحدث عن حرصها على تقديم الرأي والرأي الآخر بنزاهة تامة أو يفاخر بعضها بعرضهم للأخبار الحقيقية دون أي تدخل وفي حقيقة الأمر فإن قلة قليلة قد تجاهر بكونها ذات رأي واحد أو أنها تعتني بعرض جزء محدد (يروقها ويخدم توجهاتها) من الحقيقة. وأكثر من ذلك فإن غالب القنوات الإخبارية أو حتى الإعلامية تلك تنكر صلتها بأي جهة رسمية أو خلافه بحيث تنفي عن نفسها أي توجه أو تحيز معين. ونزولاً حتى مستوى القنوات الاعلامية الفردية، كالصفحات الشخصية على الاسافير، فلا شك أنها كذلك تقع تحت سيطرة تحيزات الشخص القائم عليها* وتشتد التحيزات وتتشكل كلما اجتمعت مجموعة على أدارة أمر القناة المعينة باعتبار أن المجموعة الإدارية المتجانسة لابد لها من الاشتراك في كثير من التوجهات والاتفاق على حد أدنى من المباديء والمناهج وتظل تلك التوجهات والمناهج مسيطرة على الرسالة الاعلامية المقدمة وتسهم في تشكيل الوعي والمعرفة لدى متلقيها.

وعوداً على المؤسسات التي تسعى بالوسائل الناعمة (التضليل لصناعة الرأي العام) لضمان بسط سيطرتها، فإن المنطق يوجب أن تكون لها قنوات متعددة ومختلفة الاشكال والأحجام والمضامين لممارسة التضليل على المستوى الأعظم وعلى مستويات اصغر. ومن ناحية أخرى فإن كفاءة التضليل (لتشكيل رأي عام ما) لا تتطلب بالضرورة أن يكون كل من يساهم في بث الرسالة المُضلِلة المعينة على علم أو عي تام بخطأ المعلومة أو نقصانها أو تشويشها أو الغرض وراء ذلك بل وربما يظن بعضهم أنه فعلاً لا ينقل إلا الحقيقة كاملة ولا يتحيز حين تقديمه لرأيين مختلفين أو متعاكسين. وربما نعود في مكتوب آخر لنتحدث عن جاذبية العرض الإعلامي وكفائته في تشكيل الصور الذهنية المعينة وتشكيل الوجدان وتحديد التوجهات الكبرى من ثم والأصغر لمساعي الناس.

وحيث أن الإعلام أصبح مرناً وصار عدد كبير من سكان العالم يحملون الصحف والاذعات والتلفيزيونات على أجهزتهم المحمولة والتي يتعاملون بها مع محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي التي تتعرف بالضرورة ولحد بعيد ربما على ميول وتوجهات الشخص وسماته العامة، فإن الأسافير قد أصبحت أرض المعارك الاعلامية الأهم حيث يتشكل رأي كثير من البشر الفاعلين والمؤثرين خصوصاً في المجال السياسي والشأن العام. ولا شك أن المعلومة المضلِلة حالما انتشرت وعُرفت ووصلت لأذهان الكثيرين، يصبح من العسير جداً ملاحقتها ودحضها وجبر الضرر الناتج عنها. والأدهى من ذلك أن كثير من المتلقين لا يسائلون المصادر كثيراً وربما لتحيزاتهم الخاصة أو العامة أو حتى لبساطتهم يعتمدون مصادر التضليل هذه أو تلك كحق لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه وينجرفون في موجات حركة يظنونها عفوية و”راشدة” بينما أن حركتهم هذه تدار بنسق معين ومنهج محدد لتخدم مصالح تلك الجهة أو تلك التي ربما يقشعر بدن أحدهم إذا علم أنه وبحركته تلك قد صب جهداً في صالحها.

لا شك أن كل من توفر لديه قدر من التفكير النقدي والمسائلة التحققية واختبار المعلومات وحتى الآراء المطروحة في الاعلام، ينأى بنفسه عن الوقوع تحت أثر التخدير والتضليل والتغبيش والايهام. وإن كانت الاسافير قد اتاحت قدراً لا بأس به من الحرية ومكنت الكثيرين (حتى من ذوي المقدرات الضعيفة) من توصيل الكثير من الأخبار والآراء غثها وسمينها فإن المزيد من الحرية يضمن قدراً أكبراً من الوعي وأثراً أقل للتضليل والدعاية. والمزيد من الحرية لا يقتصر بالطبع على حرية الوصول لوسائل المعلومات والإعلام الوسائل بل يقصد نحو الأسمى والأرفع مما يتعلق بتقبل البشر لبعضهم البعض ولاختلافهم. وحتى وان اضطربت الأمور في بدايتها كما هو الحال الآن مع توفر القنوات الإعلامية وكثرتها وسهولة الوصول إليها، فإن الوعي الحقيقي يأتي مع حرية فعلية وحفظ للكرامة في واقع حياة الناس لا على شبكة الانترنت فحسب!

التعليقات مغلقة.