عبد الله مكي، يكتب: الشريعة والسياسة في السودان (3) موقف الترابي

 

يعتقد الترابي أنّ حركته استفادت من إعلان هذه القوانين فيقول في كتابه (الحركة الإسلامية في السودان: التطور المنهج الكسب): “وقد جاء تطبيق الشريعة الإسلامية بركة ضخمة غير محتسبة وجاءت التعبئات الإسلامية احتفالاً بها دفعا لأهم أهداف الإستراتيجية، ألا وهو البناء الشعبي للجماعة، وهكذا أُحيل أمر الشريعة من قانون مسنون إلى وعي وتوجّه إسلامي شعبي بقي ذخراً وقوة للحركة في العاقبة”.ويوضح الترابي أسباب تأييده لهذه القرارات: “وقد أيدت الحركة التطبيق الفوري لأحكام الشريعة أيام نظام النميري، لأنها رأت الحسم بالأمر الواقع أقطع لدابر الضغوط التي قد تقع على الإجراءات المتراخية فتعوقها، ولأنها لم تملك خياراً حراً بين منهج متمهّل يضمن ثباته اضطراداً نحو الكمال، ومنهج فوري جاء فلتة من قبل النظام، ربما لغرض سياسي، لكنه إذا فُوّت لا يُضمن استدراكه وقد تستدرك علاته”. ويُعلق عبد الله علي إبراهيم في كتابه (الشريعة والحداثة) على موقف الترابي بقوله: “واحتج الترابي في رده علي منتقديه، بأنّ تحول النميري إلى الإسلام راجع إلى الحركة الإسلامية التي جعلت من مسألة توبة الدولة إلى الدين مسألة جلية وَجذَّابة حتى شامها ضليل كالنميري.

وعلى صعيد متصل فمنتقدو الترابي ينعون عليه تسليمه بوعد النميري له بأسلمة الدولة. ويرد الترابي عليهم: “بأن مصداقية النميري ليست من شأنه في كثير أو قليل”. ويؤكد عبد الله علي إبراهيم: “إنّ الترابي بوصفه ناشطاً إسلامياً، يعتبر نظام النميري ألحق نسباً بمتوالية حكومات الأفندية التي فارقت الإسلام في تصميمها الدستوري”. وختم بقوله: “والترابي في تحالفه مع النميري إنما كان يتلمس لحركته مساحة للمناورة، فقد كان لزاماً على الحركة الإسلامية ابتداع تخطيطها التكتيكي الخاص في التحالفات متحررة عن إسار المنهج السياسي لتلك الصفوات”. أما منصور خالد فيقول: “وعلى خلاف الصادق، وجّه حسن الترابي كل جهده لتحقيق غايته: تحويل السودان إلى دولة إسلامية، وكان مستعداً لقبول أي شيء يمكنه من نيل ما يبتغيه. إستراتيجية الترابي كانت أكثر فعالية وبراعة.

وسعى الترابي خلال موقعه وزيراً للعدل في حكومة نميري لترجمة توجه نميري الإسلامي الجديد إلى قوانين”. ويقول عبد الوهاب الأفندي في (الثورة والإصلاح السياسي في السودان): “وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أنّ الترابي لم يكن يبالي أن يضحي بالسمعة الحسنة مقابل تحقيق أهداف بعيدة المدى، كما حدث عندما تمسك بالمصالحة مع النميري في ظروف صعبة”.ونقل محمد مختار الشنقيطي في كتابه (الحركة الإسلامية في مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي)، ما قاله الترابي للهاشمي الحامدي في حواراته: “لم نكن نهتم بدوافع نميري وانما كان تركيزنا على استغلال كل فرصة لترسيخ المطالب والأفكار الاسلامية فالاهتمام العام العام بالنسبة لنا كان تحقيق غايتنا على المدى البعيد، والمتمثلة في ترسيخ الحياة الاسلامية بكل مظاهرها”

ويقول الترابي أيضا: “مهما كانت نيات النميري في سياساته فهذا أمر موكول إليه لا يهمنا لأن ما يعنينا هو الأعمال فلم نُضع وقتنا في التكهنات بمدى صدق النميري أو بنيته سحب البساط من الحركة الإسلامية ولكن ركزنا على استغلال كل حدث لتثبيت الشعارات الإسلامية والتقدم في اتجاهها حتى نقطع خط الرجعة أمام السلطة القائمة أو غيرها، ونجعل الحدث سبب قوة للحركة الاسلامية الشعبية. ومهما يكن فانه لا يمكن لعاقل أبدا أن يطالبنا برفض تحريم الخمور في البلاد، أو تطبيق الحدود، بدعوى أن نميري غير صادق مثلاً، انما التصرف الحكيم حينئذ هو توظيف هذه الخطوات للتقدم في الدرب الأطول: إقامة الحياة الإسلامية بكل معالمها ومقوماتها، إن ذلك الجهد الذي بذلناه لتحويل قوانين الشريعة إلى مواقف إيمانية. مبدئية عند الشعب، قد أثمرت أكثر مما كنا نتوقع، وقطعت بنا شوطاً حاسماً”.

*موقف الصادق المهدي*

لم يُعلن السيد الصادق المهدي رأيه في قوانين سبتمبر مباشرة، بل انتظر صلاة العيد في الجزيرة أبا حيث يتجمع أنصاره، فقال: إنهم مع شرع الله والقوانين الإسلامية، ولكن هذه التشريعات تحتاج لتهيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقال إنّ تطبيق الحدود بهذه الطريقة سيشوه صورة الإسلام. وعند عودته للخرطوم تم اعتقاله عدة أشهر ثم أُطلق سراحه.

*موقف الميرغني*

لقد ذكر منصور خالد في كتابه (قصة بلدين) موقف السيد محمد عثمان الميرغني بقوله: ” لم يكن الصادق والترابي وحدهما اللذان أشادا بالشريعة النميرية، إذ أبرق السيد أحمد الميرغني عضو المكتب السياسي للإتحاد الاشتراكي السوداني نميري بقوله: كلفني السيد محمد عثمان الميرغني بمناسبة إصدار سيادتكم للقوانين الإسلامية والتي وضعت الشريعة السمحاء موضع التنفيذ الفعلي في بلادنا الحبيبة، أن أنقل لكم التأييد الكامل والمطلق لكل هذه الخطوات الإسلامية العظيمة والتي هي بكل المقاييس من الإنجازات العظيمة، وهي من صميم أهدافنا”.ويرى منصور خالد أنّ “ابتزاز نميري للقيادات الدينية” هو الذي حملها على تأييد الشريعة كل على طريقته، كما أنّ روح التنافس بين السيدين زعيمي الطائفتين الدينيتين هي التي سادت في تناولهما لقوانين سبتمبر وفي هذا الصدد يقول: “فالتباري بين قائدي الطائفتين الدينيتين في الترحيب بشريعة نميري لم يكن أكثر من تعبير عن روح المنافسة بينهما. فإن كان ابن المهدي قد أيّدها على طريقة نعم ولكن، فلا محاص من أن يكون تأييد الميرغني مطلقاً.

ذلك التباري الأرعن يدل على شيئين: الأول هو أنّ كليهما وقع في الفخ الذي نصبه الرئيس القائد، والثاني هو أنّ الثنائية الطائفية والتنافس الذي صحبهما دوماً، ما زالا يتحكمان في صنع القرار. كلا الزعيمين لم يرد أن يترك للآخر مجال الإنفراد بتأييد الشريعة، بالرغم مما اعتورها من قصور وأحاطت بصاحبها من ريب”.

*موقف محمود محمد طه*

عندما جاءت مايو 1969 أعلن الجمهوريون تأييدهم لها، وأصدروا كتيباً بعنوان: (لماذا نُؤيد نظام مايو ؟). وكان هذا التأييد نابعاً من رفضهم لفكرة (الدستور الإسلامي) والذي تعد له القوى الرجعية والتقليدية –حسب رأيهم – وتشمل الإخوان المسلمون والأمة والاتحادي، وأسموه (الدستور الإسلامي المزيف). وكان الجمهوريون يرون فيه تزييفاً للدين. وبعد اتجاه مايو لتعديل القوانين لتتماشى مع الشريعة الإسلامية عارضها الإخوان الجمهوريون وتعرض محمود محمد طه للاعتقال.وفي25 ديسمبر1984م وبعد أسبوع واحد من مغادرته للمعتقل أصدر منشوره الشهير (هذا أو الطوفان) والذي طالب فيه”بإلغاء قوانين سبتمبر1983م تنقية للدين من التشويه الذي ألحقته به، ودرءاً للفتنة الدينية” كما جاء في البيان. وأهم ما ورد في بيان أو منشور الإخوان الجمهوريون هو: “وجاءت قوانين سبتمبر1983، فشوهت الإسلام في نظر الأذكياء من شعبنا، وفي نظر العالم، وأساءت إلى سمعة البلاد. فهذه القوانين مخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق من المال العام، مع أنه في الشريعة، يعزر ولا يحد لقيام شبهة مشاركته في هذا المال، بل إن هذه القوانين الجائرة أضافت إلى الحد عقوبة السجن، وعقوبة الغرامة، مما يخالف حكمة هذه الشريعة ونصوصها”. وفي رده على الذين يقولون إنّ قوانين الشريعة لا يتضرر منها غير المسلمين يقول: “إنّ من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة، ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم، بموجب آية السيف، وآية الجزية، فحقوقهما غير متساوية. إنّ للمواطنين في الجنوب حقاً في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة، وإنما يكفله لهم الإسلام في مستوى أصول القرآن (السنة). لذلك فنحن نطالب بالآتي:أولاً: “نطالب بإلغاء قوانين سبتمبر1983، لتشويهها الإسلام، ولإذلالها الشعب، ولتهديدها الوحدة الوطنية”.ثانياً:”نطالب بإتاحة كل فرص التوعية، والتربية، لهذا الشعب حتى ينبعث فيه الإسلام في مستوى السنة (أصول القرآن) فإن الوقت هو وقت السنة، لا الشريعة (فروع القرآن)”. ونواصل

التعليقات مغلقة.