الخروج من ”ديار المذلة“ خواطر حول الشعر والهجرة: أسامة إسبر

ماسة نيوز : الخرطوم

للهجرة أشكالٌ كثيرة، وهي من منظور فلسفي، تحدث في كل شيء، فالحياة في جوهرها هجرة وتحوّلٌ وتبدّل للأشكال، أو خلعٌ للقمصان المستعارة، أما بالنسبة لهجرة الأفراد من أوطانهم فهناك نوعان: هجرة طوعية وأخرى قسرية تُصنّف في خانة التهجير أو اللجوء أو الإبعاد والطرد. وبالمعنى الفلسفي العميق لا يوجد وطن تولد فيه أو ترحل عنه لأنك على صفحة الوجود مجرد عابر زائل، كما عبّر عن ذلك الشاعر صرّ درّ:

كيف يعُدّ الدنيا له وطناً
من هو ينأى عنها وينتقلُ؟

وفي هذه الدنيا لا مستقر لنا، فالبقاء مهدد بالفناء والمقام بالرحيل، كما يضيف في بيت آخر:

يحدثنا بالفناء البقاءُ
ويُخبرنا بالرحيل المقام

إن الإنسان مهاجر من حياة إلى فناء، أو من حياة إلى حياة أخرى معرّفة إذا كان مؤمناً، فالحياة جسر، وهذا الجسر أكثر تجسداً في الثقافة العربية الإسلامية، لأن جوهر الدين الإسلامي قائم على مفهوم العبور الذي ينقلك إلى الآخرة، إلى النار أو الجنة، وهذا يعني الهجرة من هذا العالم إلى عالم ما ورائي، مما حول ممارسة الحياة الأرضية إلى عبودية للفكرة. كل شيء يجب أن يكون لبنة في جسر العبور هذا، حتى الحياة نفسها، وتحولت السلطة إلى حارسة هذا العبور، لما رآه أبو العلاء المعري كذباً ونفاقاً. والهجرة مغادرة للوطن بحثاً عن وطن آخر يطعمك خبز الحرية والكرامة، وهي بالمعنى الفني هجرة من الأشكال السائدة، وبحث عن عوالم مستترة. أليست النصوص الأدبية المتفردة، هجرة من وطن النصوص الأليفة؟ أليست القصائد العظيمة هجرة من وطن الأشكال الشعرية السابقة وبحثاً عن وطن شعري جديد؟ إن كل كتابة جديدة هي سفر، هجرة إلى وطن تعبيري آخر، والإبداع يتجلى في هذا السفر المتواصل خارج وطن التقاليد الموروثة والقيم المستنقعية في أشكال لا تتوقف عن الولادة لدى كل تجربة أدبية أو فنية عظيمة.

غادر كثير من الشعراء والكتاب العرب أوطانهم لا حباً في هذا، بل باحثين عن مكان يستطيعون فيه الكتابة والتفكير بحرية، بعيداً عن مقص الرقابة وبطش السلطة المباشر. وفي عالمنا العربي للهجرة تراث شعري سابق ضارب في القدم، فالشاعر الفارس مالك بن الريب المازني أعلن أنه كان يعيش في ”دار مذلة“ وأن العالم يحتوي على أوطان تحترم كرامة الإنسان:

فإن لنا عنكم مراحاً ومَزْحلاً
بعيسٍ إلى ريح الفلاة صوادي
ففي الأرض عن دار المذلّة مذهبٌ
وكل بلاد أوطنتْ كبلادي

إن ما يحتاج إليه الإنسان هو وطنٌ يوطّنه ويحترمه كمواطن، فماذا نقول في ضوء هذا عن بلداننا العربية التي تزداد نسبة الهجرة منها على مر الأعوام؟ لقد عبر مالك بن الريب في صرخة شعرية مؤلمة عما يعتمل في صدور كثيرة معاصرة، وكان شاعراً فارساً هجا الحجاج ومات في طريق السفر إلى خراسان نحو ٦٨٠ ميلادية بعد أن لدغه ثعبان. ويُرْوى أن الجن وضعت قصيدته اليائية مكتوبة تحت رأسه بعد موته. ولم ير الشنفرى عيباً في اللجوء إلى قوم آخرين، أو في مصاحبة الذئاب والضباع وتفضيلهم على بني قومه، ويعبّر شعره في ضوء لحظتنا المعاصرة عن قرف الإنسان العربي المعاصر من السلطة وأدواتها وخدمها الذين شرّش فسادهم في البلاد وحولها إلى سجن. وصاغ الشنفرى هذه الأفكار في لغة شعرية جميلة وآسرة:

أقيموا بني أُمِّي صدورَ مطِيِّكُم
فإنِّي إلى قومٍ سِوَاكُم لأَمِيلُ
فقدْ حُمَّت الحاجاتُ والليلُ مُقْمِرٌ
وشُدَّتْ لِطَيَّاتٍ مَطَايا وأرْحُلُ
وفي الأرضِ مَنْأَى للكريمِ عن الأذى
وفيها لمنْ خافَ القِلَى مُتَحَوَّلُ
لعَمْرُكَ ما بالأرضِ ضيقٌ على امرِئٍ
سَرَى راغباً أوْ راهباً وهوَيعقلُ
ولي دُونَكُم أهلونَ سِيدٌ عَمَلَّسٌ
وأرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفَاءُ جَيْأَلُ

وضاقت البلاد على الشاعر سويد بن أبي كاهل اليشكري، بل تحولت إلى سجن مصادر للحرية، بحيث ليس فيها متسع ولا يمكن الاستقرار فيها:

كيف باستقرار حرٍّ ساخطٍ
ببلادٍ ليس فيها مُتّسع؟

وهذا ما شكا منه أبو تمام الذي قرر الرحيل عن بلاد تعقل اللسان وتقفل القلب:

وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها
لساني معقولاً وقلبي مقفلا

وهذا ما دفع المتنبي إلى السفر والمغامرة، هرباً من الذل والخنوع:

فاطلب العزّ في لظى، ودع الذلّ
ولو كان في جنان الخلود

حتى أنه سافر من وطن إلى آخر دون أي حنين لأن هذه الأوطان لم تحقق له ما يصبو إليه:

غنيّ عن الأوطان لا يستفزني
إلى بلد سافرتُ عنه إياب

وفي النهاية، لا يوجد وطن، وخير للمرء أن يظل مسافراً متنقلاً أبداً:

أعزّ مكان في الدنى سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب

وفي أحيان أخرى يقسو الشعراء على أوطانهم، كما يفعل أبو الحسين الجزار:

وأعجبُ الأشياء أنّ قلبه
سارَ وما حنّ إلى أوطانه

وهناك من الشعراء، من اعتبر أن الأشخاص الحقيقيين هم في غربة أينما كانوا كما يقول الشاعر أحمد الكيواني:

أيقنتُ أن ذوي المروءة كلهم
في غربة، فبكيتُ للغرباء

تختلف هجرةُ الشعراء عن غيرهم، فهي ليست سفراً خارج الجغرافيا فقط، بل خارج اللغة وفيها، خارج اللغة المتداولة، اللغة التي تعكس العالم في مرآة العادة والتكرار، وداخل اللغة التي ترسم صورة جديدة للعالم حين تخلق الواقع من جديد. ومن أعظم فضائل الشعر على القارئ أنه يساعده على أن يرى اللامألوف ويضعه وجهاً لوجه مع المجهول، وكلمة مجهول قد تبدو كبيرة هنا ولكن يمكن اختصارها إلى الأشياء المألوفة وقد خرجت من ألفتها ورسمت معها الكلمات علاقات جديدة، وضعتها في سياق جديد. فتتجدد اللغة عبر هذا اللعب الإبداعي الذي يهدم ما هو مألوف في حياتنا ويبنيه في صورة جديدة كي يُغنيها. والهجرة التي تعيش في جوهر القصيدة المغايرة لا حياة للقصيدة من دونها، فالنص كالكائن يحتاج إلى سفر خارج تراثه ومحيطه كي يفتح أفقاً جديداً لهما. هذا ما فعله الشعراء المجددون في اللغات كلها، الذين أحدثوا ثورة في اللغة الشعرية، وهذا ما يجب أن يفعله الشعراء دوماً وفي جميع اللغات. ويكفي أن نعود إلى ما يقوله الشعراء أنفسهم كي نؤكد ما نذهب إليه. فالشعر هو التغاير والاختلاف والانزياح والابتعاد وقد مُنح شكلاً فنياً يعكس فرادة الأسلوب وقوة التعبير، ولهذا قُسم الشعراء إلى كبار وصغار، إلى مقلدين ومجددين، و إلى ثائرين على التقاليد الأدبية ومذعنين مكررين لها، غير أن هذه التصنيفات دوماً مجحفة وتضيع في سياقها التفاصيل الصغيرة، إذ كم من قصيدة رائعة ضاعت في هذه المقارنات لشعراء لم يُصنفوا كباراً أو فحولاً، وكم ظلم الإعلام الذي يمجد شعراء بعينهم شعراء آخرين. هنا يلعب واضعو المختارات الشعرية الذين يتمتعون بذائقة رفيعة ويعرفون ما هو الشعر الإبداعي دوراً مهماً. كما يلعب الشعراء أنفسهم دوراً مهماً في خدمة الشعراء والتنقيب عن الأصوات الإبداعية. ومَنْ غير الشعراء يبحث عن الشعراء؟ فكتابة الشعر تقتضي هذا، أن تبحث عن نفسك في غيرك وعن ما ليس نفسك أيضاً كي تراها على حقيقتها الشعرية. وفي هذه اللحظة الحالية نحتاج إلى واضعي مختارات ينقبون في التراث الشعري القديم والحديث، كي يستعيدوا لنا القصائد الضائعة، ويوقدوا حطب قراءة جديدة في الصالة الفارغة في شتاء العالم القارس كي يأتي قراء ليتدفأوا بقراءة قصائد مكتشفة. وإن هذا لسفر يعادل في متعته السفر لاكتشاف بلدان جديدة. غير أن المشهد الأدبي والأكاديمي العربي يتميز بالفقر الشديد والضحالة في هذا المجال بالمقارنة مع المؤسسات الأكاديمية الغربية، فتقريباً كل عام تصدر أكثر من أنطولوجيا تضم مختارات شعرية تواصل تقديم الشعر من جديد للقارئ والباحث في الغرب فيما تعد المختارات التي تصدر عربياً على الأصابع، ومعظمها لا يعكس ذوقاً أدبياً رفيعاً أو قراءة جديدة للمشهد الأدبي يتم في ضوئها وضع المختارات. وكما أن الأدب ليس ترفاً وليست النصوص الأدبية نصاً واحداً، ليست الهجرة ترفاً، وليست الأوطان وطناً واحداً، على الأقل هذا ما يقوله أجدادنا الشعراء، فمنذ امرئ القيس نسمع صرخة التمرد تصل إلى آذاننا في جمل شعرية حين نرددها بصوت مرتفع تصل إلينا حرقة صوت قديم قرر أن يغادر وطنه ويبحث عن حظ، وحين تبدأ الهجرة فإنها تبدأ داخل الوطن قبل أن تبدأ بمغادرته.

إن ما يحتاج إليه الإنسان هو وطنٌ يوطّنه ويحترمه كمواطن، فماذا نقول في ضوء هذا عن بلداننا العربية التي تزداد نسبة الهجرة منها على مر الأعوام؟
تدفعك إلى مغادرة وطنك أسباب سياسية أو حرب مدمرة أو انعدام الفرص وانغلاق أبواب المستقبل، ورغم القيود المفروضة على الهجرة تحاول أن تعثر على طريقة كي تسافر. والمخيف في الأمر أن عدداً هائلاً يرغب بمغادرة أوطانه، ليس فقط في سوريا، بل حتى في البلدان التي ليس فيها حروب، والسبب هو أن الاستعمار أنهك المنطقة والسلطات التي تعاقبت عليها تحت قناع الاستقلال لم تضع حجر أساس يمكن أن يُبْنى عليه مستقبل يؤمن الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي والاقتصادي، بل أديرت الأمور بطريقة تركتها مفتوحة على احتمال التزعزع وعدم الاستقرار، وهكذا فإن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والعسكرية تثور دوماً كالبراكين والزلازل وتضرب ضربتها، وتزيد من رغبة الناس بالهجرة، ولو أن هذه الأوطان العظيمة وُفِّقَت بقيادات عظيمة لكانت جناناً يحج إليها الناس من مختلف الأصقاع، وكم هناك من يرغب بأن يعيش في سوريا أو لبنان أو العراق، هذه البلدان ذات العمق الحضاري والإبداعي الهائل والطبيعة الساحرة والثروات الهائلة المنهوبة التي بدأ أبناؤها يجوعون ويعرون، ويتكومون في الخيام، ولا يستبينون طريق المستقبل، فيما تقوم البنوك بغطاء من الحكومات بالسطو على مدخراتهم وتحويشة أعمارهم ويفرض عليهم الغرب حصاره الاستنزافي كي تظل إسرائيل حاكمة المنطقة.

بعيداً عن وطنه يتجسد المهاجر في الفئة التي يضعه فيها الآخر، في الوطن البديل، الآخر الذي بدأ يخاف من مرأى إنسان آخر ليس من عرقه أو من ثقافته أو من دينه، ذلك أن الغرب بدأ يطبق سياسات هجرة ظالمة، وصار ينظر إلى الآخر من الحدقة الضيقة للقوميين البيض و”صيادي المهاجرين” على الحدود. وازدادت قوة النازيين الجدد والمؤمنين بتفوق العرق الأبيض، وقد بدأ بعض السياسيين الحكماء في الغرب يتنبهون إلى هذا الخطر.

لا أحد يعبر عن مرارة الهجرة كالشعراء الذين يمتلكون القدرة على قراءة ما يعتمل في صدور البشر. والهجرة في أحد معانيها العميقة نوع من إعادة الخلق، فأنت حين تعيش في جو مختلف، أمام خيارات كثيرة، إما أن يصدمك الواقع الجديد ويدفعك إلى النكوص والرجوع إلى كهف دين أو ثقافة تقليدية تعيش فيه وتكوّن منظوراً ترى الآخرين من خلاله، أو يدفعك هذا الواقع إلى الانفتاح والتأثر ورؤية نفسك وأفكارك في ضوء أفكار جديدة فتتجدد وتتحرر من كل ما يعلق بك من ”طول مقام“ وتصبح مشرقاً كالشمس في فضاء تجربتك، بل تتلقح لغتك برؤى الآخرين وتولد ناصعة وجديدة، وتنصهر فيك تيارات ثقافات عديدة وتصبح بؤرة للتفاعلات المثمرة، بعيداً عن حياة الاستنقاع التي انتقدها أبو تمام:

وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقٌ
لديباجتيهِ فاغتربْ تتجددِ
فإني رأيْتُ الشَّمسَ زيدتْ مَحَبَّة
إلى النَّاس أَن ليْسَتْ عليهمْ بِسرْمَدِ

الهجرة بهذا المعنى تعميق للتجرية الشخصية وإضافة إلى اللغة الأصلية وهي ليست اغتراباً بل حضور من نوع آخر، وإلا كيف يمكن أن ننظر إلى الروائيين أو الشعراء الآخرين الذين يعيشون في بلدان تتحدث لغة مختلفة بينما يحرسون جمار لغتهم العربية ويكتبون بها.

لا يغيّب هذا الأسباب العميقة التي تدفع إلى الهجرة، ولا يسعنا أن نغفل هنا سفن الموت التي كانت تعبر المتوسط وما تزال، والممارسات الدكتاتورية التي تدفع إلى الهجرة، والسياسات الهمجية الغربية ضد المهاجرين في اليونان وإيطاليا وهنغاريا ومناطق أخرى. وبيّنت تفاصيل هجرة السوريين أن كثيراً من شبان أفريقيا وآسيا الفقراء انتحلوا هوية الضحية السورية كي يهربوا من بلدانهم، وسمعنا قصصاً ملحمية عن الغرقى وعن أشخاص خسروا كل ما يملكونه كي يدفعوا لمهرب احتال عليهم، وكل ذلك من أجل عبور الحدود. واكتسبت الحدود في أعين المهاجرين بعداً جديداً، صارت الجدار الفاصل بين الماضي والمستقبل، بين واقع مدمر ومستقبل مشبع بالوعود والاحتمالات. وهذه الحدود التي يحرسها السياسيون والذين حولوا الكوكب الأرضي إلى عقارات تمتلكها الدول، تزيد من التعصب القومي المدعم بأعمدة رهاب الأجنبي.

إن تصاعد الهجرة وتحولها إلى ظاهرة كونية يؤكدان يوماً بعد يوم أن الحدود ستُزال أمام البشر، وأن موجات الهجرة التي ينذر بها التغير المناخي تحتم هذا وتقتضي سياسات أكثر انفتاحاً وإنسانية وتضامناً. وما نحتاج إليه هو النظر إلى الفرد كمركب ثقافي يحافظ على مسافة نقدية من موروثه وموروثات الآخرين أو ثقافاتهم، ومن الخطأ إدراج الآخر في صورة نمطية.

إن المناطق التي يهاجر إليها المرء تصبح أوطاناً ثانية وقد يصبح المهاجر في المستقبل قادراً على التنقل بين وطنين وعلى أن يكون جسراً ثقافياً. امتلاك هذه القدرة على بناء الجسور الثقافية يمنح المهاجر دوراً استثنائياً وهو هدم الآراء المسبقة التي تتحصن الثقافات وراء متاريسها وتوسيع أفق التبادل الثقافي والفكري.

إن الهجرة ليست من بلد إلى بلد فقط، بل هي أيضاً في هجر الأشكال الموروثة ونبذ الحدود والقطيعة مع السائد، وبهذا المعنى كل إبداع هو هجرة توسّعُ جغرافيا الروح البشرية المتطلعة إلى حياة أفضل خارج أسر الدكتاتوريات العسكرية وحكم الأحزاب الأحادية المصادرة للحياة السياسية والمدنية والأصوليات الدينية والعلمانية المقنعة بالحداثة والتي تحول العالم إلى سجون متجاورة

التعليقات مغلقة.