عبد الله مكي – الدولة العميقة وإجهاض الثورات(1)

بعد ثورات الربيع العربي كثرالحديث عن(الدولة العميقة) وأنها السبب الرئيسي في إجهاض هذه الثورات التي اقتلعت الأنظمة العسكرية، وتجلى هذا الأمر بأوضح صوره في حالة ثورة 25 يناير المصرية، والتي لم تمكث فيها الحكومة المنتخبة سوى عام واحد فقط، ليعود النظام القديم بأبشع مما كان عليه قبل الثورة من قتل وتشريد واعتقال وإعدامات، وقضى الرئيس المنتخب (محمد مرسي) نحبه في السجن ومكث فيه مدة بلغت سبعة أضعاف المدة التي قضاها في قصر الرئاسة.

فماذا يعني مصطلح الدولة العميقة ؟ وكيف تُجهض الثورات ؟ ولماذا ؟ هل ينطبق هذا الحال على ثورة ديسمبر في السودان ؟

معنى الدولة العميقة
الدولة العميقة كلمة غامضة ومثيرة الجدل، وذهب الناس مذاهب شتى للإحاطة بالمصطلح وضبطه. الباحثة ريم أحمد عبد المجيد بالمركز العربي للبحوث والدراسات تقول:”يعد مفهوم الدولة العميقة من المفاهيم التي مازالت غامضة رغم قدم نشأته نسبياً، كما أنه أكثر المفاهيم إثارة للجدل حيث لا يوجد اتفاق على تعريف محدد له ولا على محدداته وأبعاده. بالإضافة إلى أنه يتشابك مع عدد من المفاهيم المستخدمة في الأدبيات السياسية، مثل(حكومة الظل)، وكذلك(الدولةالموازية) و(دولة داخل الدولة). وحسب تعريف(ويكيبيديا) فإن الدولة العميقة أوالدولة المتجذرة أو دولة بداخل دولة، هي مفهوم شائع غير اختصاصي يُستخدم لوصف أجهزة حكم غير منتخبة تتحكم بمصير الدولة (كالجيش أوالمؤسسات البيروقراطية المدنية أوالأمنية أوالأحزاب الحاكمة)، وقد تتكون الدولة العميقة بـ(هدف مؤامراتي) أو بـ(هدف مشروع) كالحفاظ على مصالح الدولة كنظام حكم.

مفهوم الدولة العميقة
الدولة العميقة مصطلح أتى من تركيا وشاع فيها، وهي(مجموعة من التحالفات النافذة والمناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسي التركي، وتتكون من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات المحلية والأجنبية، والقوات المسلحة التركية والأمن والقضاء والمافيا).

فكرة الدولة العميقة مشابهة لفكرة(دولة داخل الدولة). فالأجندة السياسية للدولة العميقة تتضمن الولاء للقومية والنقابوية، ومصالح الدولة. يُستخدم العنف ووسائل الضغط الأخرى الخفية في الأغلب للتأثير على النخب السياسية والإقتصادية لضمان تحقق مصالح معينة ضمن الاطار الديمقراطي ظاهريا لخريطة القوى السياسية.

الرئيس التركي السابق سليمان دميرل يقول إن منظر وسلوك النخب (التي يسيطر عليها العسكر) التي تكّون الدولة العميقة، وتعمل على الحفاظ على المصالح الوطنية، يشكّله إيمان متجذر، يعود إلى سقوط الدولة العثمانية، بأن البلد هو دوماً(على حافة الهاوية).

وكما يوضح رئيس الوزراء التركى الأسبق بولنت أجاويد، فإن تنوع الآراء يعكس عدم اتفاق على ما تكون عليه الدولة العميقة. أحد التفسيرات هو أن(الدولة العميقة)ليست تحالفا، بل عدة مجموعات تعمل ضد بعضها البعض خلف الكواليس، كل منها تسعى لتنفيذ الأجندة الخاصة بها. وقد وصف الرئيس التركي السابق سليمان دميرل الدولة العميقة كمرادف للقوات المسلحة وقادرة على اخضاع

الدولة الشرعية في أوقات الاضطرابات. ويُنظر إلى الجيش التركي والذي أطاح بأربع حكومات خلال(ال 50 سنة) الماضية على أنه فوق نفوذ الحكومة ولا يمكن الإقتراب منه. وقد أكد كنعان إڤرن(سابع رؤساء تركيا) نفس الشكوك، في لقاء مع الصحفي ياڤوز دونات. أحدث الاتهامات أتت من الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان(حينها كان رئيساً للوزراء قبل النظام الرئاسي). ففي برنامج تلفزيوني على المحطة التلفزيونية التركية(قنال7) في 26 يناير2007 م، أعرب عن اعتقاده بوجود الدولة العميقة:”أنا لا أتفق
مع من يقول أن الدولة العميقة غير موجودة. فإنها موجودة، لقد كانت موجودة دوما – ولم تبدأ مع الجمهورية؛ فإنها تعود إلى الأزمنة العثمانية.إنها ببساطة تقليد.إنه من الواجب تقليلها، ولو أمكن مسحها من الوجود”. ويرى البعض تحقيقات (أرغينكون)، تحت عين إردوغان، كتنفيذ لهذا التطهير، وهي شبكة قومية علمانية سرية خططت لإنقلاب ضد أردوغان وحزبه العدالة والتنمية ذو الأصول الإسلامية.

الدولة العميقة في أمريكا
أوردت(DW)الألمانية في يوم السبت الماضي(22 أغسطس) خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب:”اتهم أعضاء من(الدولة العميقة) في إدارة الغذاء والدواء (اف.دي.ايه) دون تقديم دليل، بالعمل على إبطاء اختبارات لقاحات(كوفيد-19) وتأخيرها إلى مابعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر. وعادة ما يلجأ ترامب إلى تويتر لانتقاد الوكالات الاتحادية، وأحياناً يتهمها بأنها تقع تحت سيطرة (الدولة العميقة) في إشارة واضحة إلى الموظفين الذين يخدمون منذ فترة طويلة يرى ترامب أنهم مصممون على تقويض برنامجه”. فالدولة العميقة في الولايات المتحدة كما يرى كثيرون هي نظرية المؤامرة التي تشير إلى أن التواطؤ، والمحسوبية، وهي موجودة

داخل النظام السياسي الأمريكي، فالدولة العميقة الأمريكية، تشكل حكومة خفية، داخل حكومة منتخبة.
ويعتقد الباحث”مايك لوفرين” أن هناك رابطة هجينة قادرة على حكم الولايات المتحدة على نحو فعال دون الرجوع إلى موافقة المحكوم، وتتألف من عناصر الحكومة، وعناصر من أعلى مستويات التمويل، والصناعة”.
وقد صيغ المصطلح في الأصل نسبياً للإشارة إلى جهاز دولة غير مرئي في تركيا، “متكون من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة الاستخبارات، العسكرية، والأمنية، والقضائية، والجريمة المنظمة، وشبكات مزعومة مماثلة في بلدان أخرى بما في ذلك مصر، أوكرانيا، أسبانيا، كولومبيا، إيطاليا، إسرائيل، ودول أخرى”.

ويقول الحسن الزاوي في مقاله:(الدولة العميقة من أمريكا وإلى فرنسا): “ويشير مفهوم الدولة العميقة الذي تبلور داخل الفضاء السياسي الأمريكي بداية من تسعينات القرن الماضي، إلى الهيئات الموجودة داخل الدولة الأمريكية، وإداراتها المختلفة التي تملك فعلياً، وبشكل سري، سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة بمعزل عن التحولات الحاصلة على مستوى المؤسسات التمثيلية التي تظهر في الواجهة، مثل الحكومة، والأحزاب السياسية”.

ويشير مفهوم الدولة العميقة – حسب الزاوي – “إما إلى نواة الأقلية الأولغارشية، أوالطبقة المهيمنة، وإما إلى الهيئة الممثلة لمصالح اللوبيات في مجالات مثل المال، والسلاح، والبترول.. إلخ. وتكون هذه الهيئة داخل الدولة البيروقراطية، بمثابة المكوّن السياسي الضيّق والأكثر انغلاقاً، ولكن أيضا الأكثر نشاطاً وفاعلية، ومن ثمة الأكثر سرية داخل هرمية المؤسسة”.

ونشرت(CNN)العربية تقريراً في مارس2017 تحت عنوان: بعد تركيا ومصر وروسيا…كيف وصلت الدولة العميقة إلى أمريكا؟ وذكر التقرير أن تعبير (الدولة العميقة) هو تعبير يستخدمه الكثير من الأتراك للإشارة إلى الشبكات الإجرامية المزعومة داخل قوات الأمن والبيروقراطية الحكومية، وتم استخدام تعبير(الدولةالعميقة) للمرة الأولى في صحيفة (نيويورك تايمز) عام 1997 في مقال عن تركيا.

ويقول تقرير الـ(CNN):”ومن ذلك الحين جرى استخدام تعبير (الدولة العميقة) لوصف أعضاء جماعات نافذين لكنهم غير منتخبين يعملون في الحكومة أو الجيش في دول مثل مصر وروسيا والآن بشكل متزايد في بعض الدوائر في الولايات المتحدة الأمريكية”.

ويذهب كل من دانا بريست ووليام أركين إلى أن:”الدولة العميقة هي دولة غير مرئية وسرية وتوازي الحكومة العلنية الشرعية”. وتوسع(سينا أودجبيمي)في التعريف بالدولة العميقة:”وذكر أنها لا تقتصر على الضباط العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة، بل تشمل بعض الأشخاص والجماعات في المجتمع المدني”. ويذهب (سينا) إلى أن الدولة العميقة تظهر بقوة في مراحل التحول الديمقراطي، خاصة في البلدان التي عانت من الاستبداد لفترات طويلة مثل دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا: “ففي مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية تُقام انتخابات حرة ويتولى المناصب مسؤولون جدد سعياً لإحداث تغيير، وفي أحيان كثيرة تفشل عملية التحول الديمقراطي، بسبب وجود تشكيلات أو تحالفات كانت مستفيدة من الحكم الاستبدادي تعمل على حماية مصالحها ومكاسبها من ذلك الحكم بعرقلة التحول الديمقراطي”.

وتقول ريم عبد المجيد (المركز العربي للبحوث): “ولكن يجب ألا نأخذ هذه المقولة كمسلمة حيث توجد دول نامية وفقيرة مثل بنين نجحت في التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية دون أن تظهر بها الدولة العميقة وصنفتها(فريدم هاوس) كدولة حرة وديمقراطية رغم أنها مرت بتسعة انقلابات عسكرية إلا أنها من(1990- 2016) شهدت ستة انتخابات رئاسية جميعها حرة ونزيهة ولم تعرقلها تلك القوى الغامضة”.

ونواصل

التعليقات مغلقة.