سلاطين تنصّروا لحفظ عروشهم وآخرون سلموا القدس مرتين وباعوا الأندلس بالتقسيط.. “صفقات التطبيع” الخاسرة في تاريخ المسلمين
محمد شعبان ايوب : الجزيرة نت
خيانة للأجداد:
بيد أن ما يثير الدهشة والتعجب في حوادث خيانة الحكام في ذلك التاريخ هو أن تأتي من الأبناء بعد ميراث الأجداد المشرّف في ساحات الوغى، ولمّا تجفَّ دماؤهم في سبيل نصرة دينهم وحماية أوطانهم؛ بل وتكون ثمرة هذه الخيانة تسليم مدينة مقدسة بحجم القدس التي كانت قِبلة المسلمين الأولى. فبعد أن استعادها السلطان صلاح الدين عام 583هـ بإعداد طويل وجهاد جليل؛ عاد بعض أقاربه فسلموها مجددا إلى المحتلين الصليبيين ليكون فعلهم ذاك “سمةَ العارِ في حياةِ الملوكِ”؛ كما قال بحق أحد الشعراء.
تبعية للتتار:
تعرضت الدولة العباسية لسلسلة طويلة من الخيانات عبر تاريخها الذي امتد أكثر من خمسة قرون، بيد أن أشهر هؤلاء الذين تسببوا في القضاء عليها ومحو آثارها كان الوزير مؤيد الدين بن العلقمي (ت 656هـ)، الذي عمل -بدأب وعلى عدة محاور- لإسقاط العباسيين ومحو معالمهم ولو بالتعاون مع المحتلين التتار.
تخذيل وتهويل:
ويروي لنا المؤرخ جرجس بن العميد (ت 672هـ) -في تاريخه ‘أخبار الأيوبيين‘- هذا التخذيل الذي جرى -قُبيل دخول المغول إلى الشام- على لسان نجم الدين الحاجب، الذي بدا معارضا لبيبرس (ت 676هـ) وقادة المماليك المؤيدين للمواجهة العسكرية مع المغول؛ فقد خاطب الحاضرين قائلا: “كل مَن يقول إنه يتلقّى هلاون (= هولاكو) يتحدث وما يعرفُ ما يقول، ومن هو الذي يلتقى هلاون ومعه مئتا ألف فارس؟”.
خيانات الأندلس:
رأينا فيما سبق بعض مشاهد خيانة الحكام للأمانة في أقطار الشرق الإسلامي، لكن زمنيا ربما كان الغرب الإسلامي أسبق منه إلى هذه الظاهرة المؤسفة، وقد أخرناه في الذكر توخيا لتحقيق الوحدة الجغرافية في سرد الأحداث وتداعيتها حتى النهاية، رغم تباعد أزمنتها.
ثغرة التساقط:
والحق أن سقوط برشلونة قد فتح للفرنجة النصارى الباب لإنشاء ولاية تسمى “الثغر الإسباني” أو “الثغر القوطي”، فأضحت منذ ذلك الحين شوكة في خاصرة المسلمين في الأندلس، وقد تطورت مع الزمن حتى أصبحت “كونتينة قطالونيا” التي اتّحدت لاحقا مع مملكة أرغون، وأنهت الجانب الشرقي من الوجود الإسلامي في الأندلس فيما بعدُ؛ فكانت الخيانة التي ظهرت في نهايات القرن الثاني الهجري سببًا في سقوط وانهيار الأندلس عبر عدة قرون!
معاول هدم:
تمكن ألفونسو السادس من احتلال كثير من بلدان وقلاع الأندلس دون قتال كما ذكر ابن حزم؛ بل انضم بعض هؤلاء الملوك إلى جيوشه ضد أبناء دينهم ووطنهم، مثل المأمون بن ذي النون ملك طُليطلة (ت 467هـ) وحفيده الأمير القادر بن ذي النون (ت 485هـ)، ذلك الخائر الجبان الذي كان ملك قشتالة يطالبه “بالمال تباعاً، وبتسليم بعض حصونه القريبة من الحدود، وقد تسلم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك والقادر عاجز عن رده، مرغم على إرضائه” ؛ وفقا لرواية عنان نقلا عن دراسة تاريخية عن ابن عباد كتبها المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (ت 1883م).
عمالة وتنصّر:
لقد انقسم الأمراء الموحدون على أنفسهم بعد ارتقاء السلطان عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي سنة 620هـ، حيث اعترض على بيعته ابنُ أخيه والي الشرق الأندلسي -وعاصمته مُرسية- أبو محمد عبد الله بن يعقوب الموحدي (ت 624هـ) الذي أعلن نفسه سلطانا جديدًا متلقبًا بـ”العادل”، ودان له معظم الجزيرة الأندلسية، وقد بايعه ابن عمه والي جيان وبيّاسة عبد الله بن محمد ابن عبد المؤمن الموحدي (ت 623هـ). أما أبو زيد ابن محمد الموحدي -والي بلنسية ودانية وشاطبة وأخو البياسي- فقد رفض هذه البيعة. ويقول ابن خلدون (ت 808هـ) -في تاريخه ‘العِبَر‘- إنه بسبب هذا الانقسام بين هؤلاء الإخوة “تفاقمت الفتنة، واستظهر كلٌّ على أمره بالطاغية (= فرناندو الثالث)، ونزلوا له عن كثير من الثغور، وقلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس”!!
إدمان الخيانة:
أتت الخلافات الداخلية للموحدين على مُلكهم في المغرب والأندلس، بيد أن ذلك لم يُغنِ من ظاهرة الخيانة شيئًا؛ فقد انقسمت الأندلس بعد الموحدين بين رجلين: هما محمد بن يوسف ابن هود الجذامي (ت 635هـ) الذي استولى على شرقي الأندلس، ومحمد بن يوسف ابن الأحمر الخزرجي (ت 671هـ) الذي سيطر على جنوب ووسط الأندلس. ورغم وقوع الصلح بين الرجلين؛ فإن القشتاليين استطاعوا محاصرة قرطبة لعدة أشهر دون أن يمدها ابن هود –الذي كانت تابعة له- بأي نوع من المساعدة والمقاومة!
السقوط الأخير:
وإذا كانت الأندلس قد تعرضت لتلك المواقف في عصور بني أمية وملوك الطوائف والموحدين ومن تلاهم؛ فإن سقوطها بالكلية لم يكن نتاج ضعف وتشرذم فقط، بل كان -على نحو أقوى- إحدى ثمرات شجرة الخيانة الملعونة بممالأة العدو النصراني طمعا من الأمراء الأندلسيين المتصارعين في حيازة الحكم والثروة. وقد عاشت الأندلس هذه الحقبة السوداء في عصر ملوك بني الأحمر عقودا عددا، وكانت مأساتها الكبرى في مشهد النهاية بين الأمير محمـد بن علي الشهير بأبي عبد الله الصغير (ت 933هـ) وعمه محمد بن سعد المعروف بـ”الزَّغل” (ت بعد 895هـ).
والمغرب أيضا:
وغير بعيد من لأندلس؛ شهدت بلاد المغرب الأقصى بعض تلك الخيانات الشنيعة التي فتحت الأبواب أمام الأعداء، في مقابل مكاسب رخيصة؛ ولعل أشهرها ما وقع في عهد الدولة السعدية (956-1065هـ) أيام السلطان المتوكل (ت 982هـ) الذي ارتقى العرش بعد وفاة والده عام 982هـ/ 1574م، لكن عمّيه المعتصم عبد الملك السعدي (ت 986هـ) وأحمد السعدي (ت 1141هـ) رفضا ذلك، واستنجدا بالدولة العثمانية التي كانت آنذاك تحكم الجزائر، فأمدته بقوات عسكرية استطاع بها السيطرة على معظم البلاد.
التعليقات مغلقة.