*رؤية:*أسامة ميرغني
ماسة نيوز
من الدلالات الخطيرة والقاسية في المشهد السياسي في البلاد؛ أن هموم و تطلعات المواطن ليست من ضمن أجندة الحكومة ولا كياناتها السياسية!… شعبٌ لا وجيع له يحس بآلامه.
وإثارة موضوع المحكمة الجنائية الدولية، لا يعدو عن كونه تابعاً لإعلام الصورة.. وللأسف الحكومة وحاضنتها السياسية تثبت كل يوم أنها أقل بكثير من التحديات و متطلبات المرحلة،
وآخر كرت تبقى لها في إرباك المشهد السياسي في البلاد هو الجنائية الدولية، وتأثيره على الرأي العام المستاء لن يدوم أكثر من أسبوعين قبل أن تبحث الحكومة عن مسألة أخرى تشغله، ولكن حتى متى ستدار البلاد والسياسة بصناعة القضايا الانصرافية؟!!.. فالمواطن له من الهموم والواجبات ما يشغله ويجعله في دوامة لا يعنيه معها العبث السياسي الذي تمارسه الطليعة المتحكمة في البلاد.
في بلادنا العزيزة ومنذ التغيير الذي حدث في ٢٠١٩م؛ ظلت المحاور الإقليمية والدولية هي القوة الفاعلة على الأرض، فإذا ما قمنا بتحليل بسيط لبيانات المشهد السياسي، نجد عدداً من الوقائع الغريبة، مثلاً ؛ أقام الجيش قبل شهور قليلة حاجزاً ترابياً حول قيادته العامة!..
أولاً أخطأت قيادة الجيش في تقدير الموقف وتوقيت الزمان والمكان، بصناعتها لهذا الحاجز ، فأمان الجيش هو في حدود السودان الجغرافية، ومهام الجيش هي الحفاظ على الدستور و الإشراف على العملية السياسية، فالجيش هو قاعدة المثلث في استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، والتوقيت سيئ لصناعة هذا الحاجز، في زمن الجيش فيه أكثر حاجة لبناء جسر وجداني بينه وبين شعبه، وترميم صورته بعد عملية فض الاعتصام أمام القيادة، بدلاً عن الاحتفاظ بلوحات جدارية في ميدان الإعتصام، جسدت تلاحم الشعب السوداني مع ابنه الوحيد الجيش، ولكن بكل أسف اختزل الصورة الكببرة في مجرد حاجز ترابي أمام قيادة جيشنا الباسل!!. حاجزٌ مؤكد أنه لم يصنع ليصد المشاة، بل لصد الآليات.
قطعاً لن يسلم البشير للجنائية الدولية، ولا حتى بقية المطلوبين، لأنه وبكل بساطة فإن المخلوع لم يجد وظيفة معلن عنها لقيادة انقلاب، ثم تقدم لها، وإنما جاءت به منظومة، أذكرها بأغنية في مسلسل مصري تقول بعض كلماتها (مين ده اللي كاره دنيتك، مين ده اللي موتو في كلمتك، وحياتو في سكوتك… !).. وأترك بقية الحكاية لفطنة القارئ.
لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥م تصبح أمريكا في السودان هي القوة الأكبر على الأرض.. أكبر من إنجلترا.
حتى ثورة أكتوبر ١٩٦٤م كانت CIA تعتمد على MI 6 في قاعدة البيانات وتحليلها في السودان؛ بعد حرب ١٩٦٧م بين العرب وإسرائيل، لم تخسر أمريكا الرأي العام العربي والإسلامي فحسب، بل وصل الواقع لحد النظرة العدائية من الشعوب العربية والإسلامية ضد أمريكا بسبب إسرائيل وعدوانها على الشعب الفلسطيني، وحينها عرفت النخبة السياسية العالمية أنه لابد من حراك يحدث تغييراً جزئياً في المنطقة، فكان انقلاب نميري وقذاقي وحافظ الأسد، وأحداث أيلول الأسود في الأردن، ووفاة جمال عبد الناصر!.
على الرغم من اهتمام أمريكا بالنخبه المحلية في منطقتنا، خاصة الأحزاب العقائدية من يسار ويمين، إلا أنه بعد المعاهدة مع إسرائيل واجهت المنظومة العالمية حقيقه الأحزاب السياسية العقائدية، فقد كانت مجرد نخب استوعبتها الطموحات الشخصية وهموم الأسرة الصغيرة، على الرغم الترويج والتزييف الذي كان يمارس بطريقة الخبر المتواتر؛ كفلان ذكي وفلان خبير أممي، وفلان يحمل شهادة دكتوراة…
بعد تحول هيئة أركان الجيش الجيش الإسرائيلي لقيادة سياسية (إسحاق رابين وشارون)؛ كان الإنسحاب من غزة، وكانوا يعرفون بأنهم كسبوا الحرب ضد الدولة العربية، ولكن الحرب الحقيقية لم تكن جيشاً في مواجهة جيش، بل كانت الحرب والهزيمة الحقيقية من داخل الدولة العربية نفسها، وبعد أن تغيرت فنون الحرب وكان السلام مع مصر، تضاربت مصالح النخب السياسية والاقتصادية العالمية، ولم يستوعب بعضها مرحلة السلام؛ فقتل السادات تحت لافتة الإرهاب، وقتل رابين تحت لافتة الإرهاب، مع العلم بأن الإرهاب هو صناعة غربية بامتياز.
اشترت الدول الغربية رضى شعوبها بالرخاء إلى أن وصلت حد تحفيز الشعوب على عدم الإبداع الفكري والفكر الجمعي لتحقيق مبدأ الفردانية، لكن صنعت الدول الغربية لنفسها مكانة عالمية بدعاية أن شعوبها تقبل الآخر ، واستفادت من أبناء المستعمرات في إصلاح الخلل المجتمعي الذي سببته الثقافة المادية التي شاعت في شعوبها.
تغير العالم كثيراً بعد منعطف الكورونا ، وصارت المتغيرات أسرع وتيرة من السابق، وأصبحت التدخلات والصراعات الإقليمية والعالمية أكثر وضوحاً، ونشاهد الآن أمثلة حاضرة له، مثل زعزعة الإستقرار فى إثيوبيا والتي صارت ملعباً جديداً لصراع المصالح العالمية في إفريقيا.
يتشكل قوام الجيش الإثيوبي من عدد من القوميات، ومن الأخطاء التكتيكية التي ارتكبها؛ أنه بعد دخوله مقلي لم تستطع القيادة أن تنتقل لمرحلة الحل السياسي، مع وجود هذا الكم من القوميات المؤثرة سلباً أو إيجاباً داخل الجيش.
وبقراءة في بعض جوانب التاريخ السياسي المعاصر لإثيوبيا؛ نجد أنه بعد أن تم خلع الإمبراطور هيلاسلاسي لجأ إلى السودان بمبادرة من أسرة الشريف الهندي، وعومل كعزيز قوم وأقام في السودان عاماً كاملاً من ١٩٣٥م إلى ١٩٣٦م إلى أن عاد لسدة الحكم..
إثيوبيا هي الدولة الوحيدة في إفريقيا التي لم تتعرض لاحتلال أوروبي، وكانت الشريفة علوية من أسرة المراغنة قد نصحت بعدم دخول الجيش الإيطالي الحرب في إثيوبيا لأنه سيهزم، وهذا ما حدث.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وضعت إريتريا خيارين ما بين الإتحاد مع السودان أو الاستقلال، لكن وقام مجلس الأمن بالرغم من اعتراف الأمم المتحدة بالحدود السياسية لإرتريا؛ قام بإلحاقها بإثيوبيا.. فقد ظل السودان العزيز للأسف ضعيف الأثر في المحافل الدولية.
الوضع في السودان الآن يشهد هشاشة سياسية واضحة، فقد فشلت الحكومة الإنتقالية في تحديات ما بعد التغيير من تحقيق العدالة الانتقالية وتحقيق اشواق وأحلام التنمية والعدالة.
لاجتماع د. حمدوك بأعضاء الحزب الشيوعي دلالات على أن هنالك تغيير قادم لا محالة، وحضور مدعي الجنائية وفتح مكتب له في الخرطوم سابقة لم تحدث من قبل حتي في رواندا !.
مع بداية إنفاذ اتفاق جوبا وتنصيب مني أركو حاكماً على دارفور، يجب أن تكون القاعدة القانونية هي السلام قبل العدالة، ومن مصلحه الأمن القومي السوداني نقل السودان من محطة الحركات المسلحة إلى محطة المشروع السياسي.
ولابد لمنظمات المجتمع المدني من تحرك سريع لتكون مراكز قوة على الأرض، ولا أمن للسودان بدون وحدة داخلية واجماع على الثوابت الوطنية.
ولابد للجيش من نشر اجتماع فض الاعتصام بالقوة أمام قيادة الجيش للرأي العام، ونشر قواعد فض الاشتباكات، وكذلك مطالبة النائب العام بنشر تحقيق محاولة اغتيال د. حمدوك.
بناء السودان الجديد يبدأ من بناء ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
معاً لتوحيد القرار السياسي بالبلاد .. معاً لبناء منصة لمنظمات المجتمع المدني.
معاً لبناء السودان الجديد.
# أسامة ميرغني
١٣ أغسطس ٢٠٢١م
جريده الجريده
التعليقات مغلقة.