رؤية: أسامة ميرغني

ماسة نيوز

 

لتأسيس رؤية وطنية لبناء السودان الجديد لابد من استلهام الافكار والعبر من تاريخنا السياسي المعاصر.
ولا يمكننا دوماً نسبة الأخطاء السياسية المدمرة لمجهول..
إن المحتل الإنجليزي في بداية عهده في احتلال السودان، (وكما أشرنا في عدة مقالات)؛ أسس قوة اقتصادية سياسية، أي كانت منهجيته في إحكام سيطرته هي صناعة قوة اقتصادية، ولكن هل نجحت تلك القوى الإقتصادية المصنوعة في أن تقدم نموذجاً لتنمية بشرية تنقل أهل السودان من اقتصاد ريفي إلى اقتصاد حضري، مثلما حدث في كوريا الجنوبية مثلاً ؟!! _ كل مراكز القوى الاقتصادية في السودان كانت عبارة عن اقتصاد سياسي، وكانت العطاءات الحكومية موجهة سياسياً، مثل ردمية السكة حديد ، وردمية خزان سنار، وحكر مواد الطاقة (الفحم الحجري) ، وإنشاء البنية التحتية لمشروع الجزيرة وخلافها.
الواقع الجديد حينها أسس بما يسمى دوائر السيد عبدالرحمن والسيد علي ، ولم يستطيع الوراث للأسف تنمية الأعمال الموروثة لمواكبة اقتصاد الحداثة أو تطويرها، بل شرعوا للأسف في بيع الأصول التي بنيت قبل أكثر من ٦٠ عاماً.
ودائره السيد عبدالرحمن كانت تضم أكثر من عشرة آلاف وظيفة، و كان موظفو الخدمة المدنية في كل السودان حينها أقل من ثمانية آلاف!، وظل هذا الوضع حتى العام ١٩٤٥م بعد بداية الحرب العالمية الثانية..
ثم كانت بداية مشروع مارشال في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والذي استفاد منه القطاع الخاص كالمنطقة الصناعية في بحري، لكن لم يتغير الحال سوى أن التجارة و الصناعة صارت وجاهة اجتماعية في ظل تنامي وبروز رجال المال وليس الأعمال ، فنشأ خلل مجتمعي ونشأت قوى حديثة تنادي في مشروعها بقيم العدالة الاجتماعية، و لاعبة بذلك على أرضية الطائفية التاريخية، والمراكز المالية التي بنيت قبل الجلاء ١٩٥٦م، والتي أحدثت انقساماً مجتمعياً قاسياً بسبب الاقتصاديات الطائفية أو المراكز التجارية المالية الجديدة، وللأسف أفرز الواقع الجديد ضعفاً في الناتج المحلي الإجمالي، وبدأت الهجرة إلى مناطق الحضر بعد أن أصبح الريف طارداً، وفضل أهل الريف أن يقيم أحدهم في منزل ليس به أدنى مقومات السكن والعيش الكريم، لكنه يضمن تعليماً أفضل لأبنائه _ كانت الأحزاب العقائدية ملاذاً آمناً لأبناء الفقراء، فقد استهواهم الخطاب السياسي المعني بالعدالة الاجتماعية، سواء أكان صادراً من اليسار أو من اليمين- ..و بعد أكتوبر ١٩٦٤م حظي أبناء الريف في ظل القوة الحديثة بوظائف عليا لكنهم للأسف لم يناصروا قضايا الريف، وبعد فشلهم عادت القوة الاقتصادية الطائفية للحكم من جديد ، لكنها أيضاً لم تستفد من دروس الماضي، فظل المشهد السياسي هو مجرد سباق وصراع على السلطة.
وكانت مايو تمثل حكم ابناء المهمشين، وكذلك الحال عقب ثورة إبريل ١٩٨٥م ، فرجعت القوة الاقتصادية الطائفية مرةً أخرى بعلاتها، ولم ينعم السودان بالاستقرار السياسي، فكان انقلاب ١٩٨٩م ، وعاد الحكم لأبناء الفقراء من جديد لكن كان الجديد هنا، أنه حتى السلم الذي أوصلهم للسلطة قذفوا به بعيداً!..
ولأول مرة في تاريخ التعليم في السودان يتم إلغاء نظام إيواء الطلاب في مدارس التعليم العام والعالي، مما يعني منع الفقراء من تحسين مستواهم التعليمي والمعيشي، وأصبح التعليم فقط لميسوري الحال (ونادراً ما نجد سكان الريف من ضمن العشرة الاوائل للشهادة الثانوية السودانية حسبما كان معتاداً في السابق)..
وللأسف ظل من أخطر المتوراثات في المجتمع السوداني، هو ذلك الحقد المجتمعي البشع..
فالحاقد أخطر على المجتمع من الحاسد، فالحاقد يؤذي حتى أقرب الناس إليه، و خاصة ذلك الذي قدم له جميلاً!..
وظهر الحقد المجتمعي حتى عند إخوة الفكرة ، بل كانت سعادتهم في تعاسة إخوانهم في الفكرة..
وكان تغيير ثورة ديسمبر المجيدة فأصبح السودان يدار مجدداً بأبناء الريف لكن أيضاً لم تنتصر قضايا الريف، وها هو الفشل السابق يعود من جديد..
*إذا أين تكمن العلة؟!!*
إن الأزمة الأبرز تكمن في هيكلية
الحكم، وغياب الإرادة الوطنية الخالصة، و لابد هنا من حديث حول المسكوت عنه..
أولاً ما هي مصادر تمويل العمل السياسي في السودان؟!! ..والمسكوت عنه أن أساس تمويل العمل السياسي بالبلاد يقوم على جهات وأجندة خارجية، و الأدهى والأمر أن مرجعية الحزب المعني نفسها، يساراً كان أو يميناً، وبواقع الحال يحدث لها تمييع فينتج انتهازيون متحكم بهم ويسيطرون على الفكر الجمعي التنظيمي، وتعد من موبقات العمل السياسي في السودان أن تتمرد على الدائرة الضيقة المتحكم بها والتي تمارس تزييف الوعي الجماهيري، مثلاً يمكنك أن تتمرد على المؤتمر الوطني الحزب الحاكم، لكن إياك أن تتمرد على الحركة الإسلامية، وتبقى حدود مساحتك في أن تتحدث عن التجاوزات، لكن الحديث عن البديل يعد من الكبائر، كما يمكنك أن تنتقد الجبهة الديموقراطية لكن حذاري أن تكون لك رؤية ما عن تنظيم الحزب الشيوعي!..
ومن مفارقات المشهد السياسي المعاصرة؛ أن الذين اعتبروا شهود ملك في محاكم انقلاب يوليو ١٩٧١م عادوا للحزب الشيوعي، بل وكوفئوا بمناصب أممية!، ولنا في الأستاذ فاروق أبو عيسي مثالاً، فقد شهد الرجل شهادة ملك ضد عبد الخالق محجوب، إلا أنه لم يكن يتجرأ أحد على إثارة الموضوع أو الإشارة له داخل أروقة الحزب الشيوعي!..
وإثارتنا لهذه الاتجاهات والموضوعات، وسردنا لبعض الحوادث التاريخية الخاطئة في السياسة السودانية؛ هو للإشارة لأزمة وخطأ شكل هيكل النظام السياسي المصنوع لصالح محاور خارجية، إذ لا يمكن بعد مرور ٦٥ عاماً على الإستقلال، ثم يأتي رئيس الوزراء ليطلب الوصاية الخارجية على البلاد!، هل ذلك لعجز فى إدارته للبلاد أم هو الصراع على السلطة؟!! (كابنت القيادة فى البلاد الآن كله من أبناء الريف الرعوي أو الزراعي، والسؤال هل انتصرت قضايا الزراعة أو الرعي أو تنمية المجتمع الريفي؟!!)..و الآن كل مدن السودان هي عبارة عن ريف كبير، حتى الخرطوم تلك المدينة التي صنعها الإنجليز وسكنها الافندية، وتعتبر أراضيها من أغلى أسعار العقارات في السودان، أصبحت عبارة عن ريف كبير، وثقافة الريف هي السائدة فيها.
إذاً من المستفيد في كل الحقب السياسية؟، وخاصة بعد ثورات التغيير؟!!، إن المستفيدين هم الساسة و بطانتهم و رجال المال..
وطريق النجاة يبدأ بالنظر وتأمل الهيكلية التي حكم بها المحتل البلاد، والتي تلت حكم المستعمر.
وأول المعالجات تبدأ من فصل الحكومة عن التجارة، فالحكومة لا تتاجر، وقال مروان بن الحكم “إذا دخلت الحكومة في التجارة؛ فسدت الدولة والتجارة”… فكيف يستقيم فهماً أن تتبنى الحكومة السوق الحر وتصرح بتحرير الأسعار ، و هي من يحدد الأسعار ، كأسعار الطاقة والمحروقات والكهرباء ؟!. والإجابة ببساطة هي أنه هنالك ثمة زواج كاثوليكي قديم بين عالم المال والحكم، وهذا هو الحال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥م، ولازالت إلى يومنا نفس المنظومة هي التي تحكم وتتحكم.
ومن المفارقات العجيبة والتي تحتاج لترجمان؛ أنه وصلت لميناء بورتسودان ١٠٠ ألف طن من القمح من جملة ٣٠٠ ألف طن كمنحة أمريكية، مع العلم بأن القمح الأمريكي هو الأجود عالمياً (Soft )..
لكن لماذا جاءت المنحة الأمريكية قمحاً؟!! لأنها تتبع لما يسمى بحساب السلع الاستراتجية، والذي كان يدار من مجلس الوزراء عبر أمجد فريد والشيخ خضر ووزيرة المالية ، ولم يستطع هؤلاء بكل أسف الإنفكاك من فلك المنظومة القديمة التي كانت في عهد المؤتمر الوطني المنحل، فقط نقلت اللافتة من “المخزون الإستراتيجي” في مبنى البنك الزراعي إلى السلع الإستراتيجية بمجلس الوزراء!.
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أن خروج الدولار من سوق التجارة العالمية هو المهدد الأول للأمن القومي الأمريكي، وخاصة المرتبط بتلك السلع التي لها دورة رأس مال سريعة كالقمح، والمحزن أنه كان في استقبال أول باخرة من منحة القمح الأمريكي وزير الصناعة إبراهيم الشيخ!.. فما علاقة وزير الصناعة بهذه المنحة المتعلقة بشأن يخص الولاية على المال العام؟!!.
حقا البداية مكلفة وتعترضها المصاعب، وطريق النجاة يعبّد ببناء الثقة بين المواطن والسلطة الحاكمة.
إن فك الارتباط بين الحكومة والتجارة هو القضية المحورية، وفي هذا الإطار يبرز سؤال ؛ لماذا ليست هنالك أزمة في السكر أو الزيت مثلاً، والندرة والأزمة فقط في البضائع التي تتاجر فيها الحكومة كالقمح والمحروقات والكهرباء والدواء؟!!
وإجابته ببساطه؛ أن تلك هي آثار المعضلة المسكوت عنها، وهي متاجرة الدولة، وأزمة الدين الداخلي التي رفع من أجلها سن التقاعد المعاشي حتى ٦٥ سنة ليتمكن صندوق المعاشات من شراء البنوك المفلسة بأموال المعاشيين!، وكان الأفيد والأصوب أن يدخل الصندوق مثلاً سوق الإتصالات داخل أو خارج السودان.. لكن .. و آآآآه بعد لكن.
و نواصل..

معاً لبناء السودان الجديد.

١٠ اغسطس ٢٠٢١م
جريده الجريده

التعليقات مغلقة.