امامة حسن الترابي : جسور التفهم والتواصل
من ناحية أخرى فإن أي شخص يتم تعريفه في النظام الجنائي كمتهم، يتعرض لسلسلة من التعاملات مع إجراءات العدالة الجنائية من خلال تعامله مع الأفراد النظاميين والرسميين في نظام العدالة الجنائية المعين. في عالمنا الحديث ونسبة لتواصل العالم ببعضه البعض اصبح من المعتاد، في حالة الأحداث الجنائية الكبرى والعالمية، أن تتعدى بعض الدول الكبرى والمؤثرة في تعاملاتها ذات الطبيعة العدلية الجنائية لحدودها الجغرافية فتضبط متهمين من بلدان أخرى بعيدة عنها جغرافياً ربما يختلفون عن غالب سكان تلك الدول (واسعة الأثر) في الثقافة والدين والعرق. وفي هذه الحال تُوَاجه أنظمة العدالة الجنائية من حيث إجراءاتها وأفرادها بأوضاع ومتهمين وأحداث “جنائية” غير نمطية ولا بسيطة مما يشكل تحدياً كبيراً للمناهج والأجراءات والأشخاص المناط بهم تحقيق العدالة وعلى أقل الفروض إنجاز قدر من الأمن والعدالة ولو جزئياً (بحساب مصلحتهم ومصلحة بلدانهم المباشرة).
لا يخفى على الكثير من الباحثين في مجال العدالة الجنائية أن سؤال الأخلاقية كثيراً ما يظهر في حال تسرب بعض ممارسات وإجراءات التحقيقات الجنائية كما حدث في سجن أبو غريب أو غوانتامو مثلاً. بطبيعة الحال فإن ما يتسرب للرأي العام والإعلام من ممارسات الأجهزة النظامية في مختلف دول العالم بخصوص إجراءات سعيها نحو “العدالة” أو “الأمن” هو قمة جبل الجليد الضخم المختفي عن غالب الناظرين. ولا شك كذلك أن بعض الدول وبطبيعة نظم حكمها وتركيبة مجتمعاتها وتطورها، تتيح مجالاً أكبر لمعرفة المعلومات وحرية الإعلام وسلطة الرأي العام بما يضمن قدراً أكبر من النقاش حول أخلاقية نظم العدالة الجنايئة ويزيد من فرص الإصلاح وحفظ حقوق الإنسان. على كل حال، غالبا ما يكون سؤال الأخلاقية قابلاً للتجاوز من بعض النافذين والمؤثرين بذريعة أن “الغاية تبرر الوسيلة” وأن حفظ السلام والأمن للجمع الأكبر من البشر أو لأصحاب المصلحة العليا أو للأقوى عموماً أجدر بالتقدير وقد يستحق التضحية ببعض المعايير “الأخلاقية” لإجراءات العدالة الجنائية. لكن يظل السؤال الأكبر والأهم هو سؤال الفاعلية والكفاءة! بمعنى آخر، هل يضمن اعتماد بعض الإجراءات المتساهلة من الناحية الأخلاقية والإنسانية تحقيق الأمن والعدالة ولو لأصحاب المصلحة المعنيين ؟ هل يحقق التنازل الأخلاقي الكفاءة المنشودة؟
للإجابة على سؤال الكفاءة، يمكننا وبكل بساطة أن نتناول أحد إجراءات التحقيق الجنائي وهو التعذيب (الجسدي والنفسي)، والذي تعتمده كثير من الأنظمة بصورة واضحة وبائنة أو بصورة مخفية ومستترة، وتختلف الأنظمة في الإبانة والإخفاء باختلاف طبيعة النظم الحاكمة الكلية. كثيرا ما تحضرني عبارة رردها أحد أساتذتي الأجلاء في معرض حديثه المتهكم على استعمال التعذيب الجسدي في التحقيق واعتبار البعض أن التعذيب ينتزع الحقيقة من المتهم، إذ قال لنا: ” فلنفترض أن أحدكم قد ذاكر مادة ما جيداً ، ودخل للإمتحان فوجد سؤالاً لم يستحضر إجابته التي يعرفها من قبل، هل يمكن لأحد ما أن يأتي ويمارس أي قدر من التعذيب الجسدي فيجعله يتذكر أو يستحضر إجابة ذلك السؤال؟” بطبيعة الحال فإن المحقق الذي يمارس التعذيب لا يفترض أي شيء في المتهم سوى أنه يعرف كل المعلومات المطلوبة ويقوم فقط بالتستر ويمكن للتعذيب أن يجعله ينهار ويفصح عما لديه. هذا المنطلق أو الافتراض يجهل بالطبيعة الوظيفية والعملية للذاكرة الإنسانية إذ أن العلم بالمعلومة في وقت ما لا يعني بالضرورة تذكرها دوماً وتحت أي ظرف ومن ناحية أخرى فإن الضغط الشديد تحت التعذيب قد يجعل الشخص المتهم يدلي للمحقق بما يريد أن يسمعه (وقد لا يكون هو الحقيقة) حتى يتخلص من وقع التعذيب المرهق أو ربما القاتل في تلك اللحظات. وعادة يكون المحقق حريصاً على حياة المتهم حتى لا يفقد خيوط التحقيق، فقد يصل لقدر معين التعذيب ويتوقف، وهذه أيضا من دواعي فشل التعذيب حينما يواجه المحقق بمتهم له مقدرة عالية على تحمل الألم الجسدي والنفسي (أو ذو تدريب عال) ويعلم كذلك قيمة حياته بما يعرف (يحمل في ذاكرته) من معلومات. وفي كلا الحالين السابقين، فإن التحقيق بالتعذيب يسهم في المزيد من انتهاك مباديء الأمن والعدالة إذ لا يجلب نفعاً للنظام العدلي المعين ويخصم من رصيده الإنساني والأخلاقي وكفاءته العملية والوظيفية. ربما لا نحتاج للقول أن هذا التعذيب غالباً ما يُقابل في المستقبل القريب أو البعيد بآثار عنف أخرى في المجتمع الصغير أو الكبير وحينها يصبح من العسير جداً على المجتمع ككل ( النظاميين والأفراد) الخروج من دائرة العنف الخبيثة تلك.
من ناحية علمية وتجريبية، فمن المهم الإشارة لمباحث البروفسور شين أومارا الأستاذ في علم الأعصاب والتي لخصها في كتابه القيم” لم لا يُجدي التعذيب” والتي تفند بمنهج علمي دقيق ومنضبط إدعاء كفاءة إجراءات التعذيب في التحقيقات الجنائية وخلافها. يعرض الباحث الكبير صوراً للدماغ البشري تؤكد أن فاعلية العمليات الدماغية بما فيها التذكر والإدراك تتأثر سلباً بالألم والضغط النفسي والجسدي وتزيد مقدرة الدماغ على التفاعل والتذكر والإدراك كلما كان الشخص في وضع مريح نسبياً، يشعر فيه بأن هنالك من يستمع له ويعامله كشخص كامل الإنسانية. هذا الوضع الذي يجعل المتهم أقدر على التعاون والتواصل قد يتطلب إجراء الحوارات الإنسانية العادية أثناء التحقيق والتواصل البصري وإبداء التفهم والمعرفة وبناء قدر أو نوع من العلاقة والصلة بين المتهم والمحقق. وهذا المنهج لا يسهم فقط في ضمان كفاءة التحقيق المعين بل يمتد أثره الإيجابي لأبعد من ذلك، فقد يمهد للمتهم ( الذي قد يكون مجرماً أو بريئاً) طريق العودة للاندماج في مجتمعه بشكل إيجابي بعد نهاية الإجراءات القانونية* وأشمل من ذلك فهو يحقق ويعزز مبدأ حفظ حق النفس الإنسانية المكرمة بترسيخ مكارم الأخلاق في الممارسات المهنية.
امامة حسن الترابي
22 أغسطس 2020
التعليقات مغلقة.