عبد الله مكي يكتب ..المجتمع المدني والسياسة (3 – 3)
المجتمع المدني والفكر الإسلامي في الحلقتين الماضيتين كان الحديث عن المجتمع المدني من المنظور الغربي، وما أفرزته الدولة الحديثة من اشكاليات جعلت ظهور المجتمع المدني أمر طبيعي ونتاج للفراغ الكبير الذي خلّفته الدولة ومؤسساتها، وأيضاً للحد من تغول الدولة وتسلطها وجبروتها ووحشيتها، يقول منير شفيق في كتابه(الدولة والثورة):”إن عودة الدولة من خلال الصيغة الجديدة للسعي إلى الاستقلال عن المجتمع والاستعلاء عليه وإخضاعه وصولا إلى أعلى درجات الطغيان يظل قانوناً حاضراً لأن الطبيعة الأساسية الثابتة المكونة للدولة تظل قائمة ومن غير الممكن بترها أو الانتهاء منها انتهاءا تاما”. وكذلك نشأ المجتمع المدني في الغرب لردم الهوة العميقة بين الدولة
والمجتمع، ومحاولة إزالة الفجوة – بل الجفوة – التي نشأت بسبب الدولة الحديثة، بين الروحي والمادي، بين الدين والدولة، بين الأخلاق والسياسة، وبين(البنية الفوقية والبنية التحتية). ومن المنصة التي ينطلق منها المتحدث أو الكاتب يتحدد مصطلح أو مفهوم المجتمع المدني سواء في الغرب، أو ما يُقابله من مصطلحات أو مفاهيم، مثل(المجتمع الأهلي)في الشرق، أو العالم الإسلامي.
يقول عزمي بشارة:”يتغير مفهوم المجتمع المدني مع تغير الموقف الإيدولوجي للمتكلم، فالمفهوم الليبرالي لهذا المصطلح يختلف عن الفهم الاشتراكي الديموقراطي، وعن الديموقراطي الراديكالي، وكذلك عن الفهم الإسلامي له”. ووجه الاختلاف واضح كون (المجتمع المدني)فكرة وافدة علينا من الغرب.
والفرق كبير بين الفلسفة والمبادئ التي ينطلق منها المجتمع الغربي،والتي ينطلق منها المجتمع الإسلامي(في مؤسسات المجتمع أو فكرة الدولة نفسها). يقول الديبلوماسي الألماني مراد هوفمان في كتابه
(الإسلام الديانة الصاعدة في الألفية الثالثة:”فإنني سأحاول أن ألخص هذه الفروق الكثيرة بين الغرب والشرق في مسمى واحد،
الفارق الأساسي بين العالمين الغربي والشرقي يتلخص في الفرق بين “الكمية” و”النوعية” Quantity and Quality. فالغرب لايعرف قيمة أي شيئ ما لم يستطع أن يعبر عن نفسه في أرقام”. ويقول آخر:(الغرب تنقصه الغايات والشرق تنقصه الوسائل). فكيف يُنظر للمجتمع المدني في الفكر الإسلامي وتمظهراته فيمجتمعات المسلمين؟
واجه مصطلح(المجتمع المدني)نفس إشكاليات المصطلحات الوافدة من الغرب مثل(الديمقراطية، الليبرالية، حقوق الإنسان…الخ)فبين الرفض المطلق، والقبول الكامل، والدعوة لضبط المصطلح و(تبيئة
المفهوم)، يقول عبد الله الحامد :”إنّ عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته، في أنماطٍ راسخةٍ في الأعراف الاجتماعيّة، لا يعني أنّ الإسلام لم يتبنّ مبادئ المفهوم، فضلاً عن أنْ يتصوّر أن المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلاميّة. فقيم المجتمع المدنيّ كحقوق الإنسان والديمقراطيّة، والحريّة،والعدالة والمساواة، وأطرها السياسيّة كالدستور والفصل بين السّلطات، واستقلال القضاء، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب، ولكنّها مفاهيم إنسانيّة، موجودة الجذور في أيّ ثقافةٍ ذات حضارة”.بهذا التوجّه تبرز أسماء عديدة، مثل محمد خاتمي، ووجيه كوثرانيّ، وأبو بكر باقادر، والعديد من المفكّرين الإسلاميين في أوروبا. ويتّفق هيثم منّاع ووجيه كوثراني وعبد الله الحامد وأبو بكر باقادر على أنّ مفهوم المجتمع المدنيّ: أوّلاً: هو مفهوم عالميّ، وثانياً: له جذوره في التاريخ والثقافة العربيّة الإسلاميّة.وكذلك تأتي مساهمات الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية وذلك عبر كتابه(مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني)، وكتابه(الحريات العامة في الدولة الإسلامية).
أمّا الشيخ حسن الترابي فيتحدث دائما عن”المجتمع المؤمن مصدر السلطان”وأنه يقود الدولة ويتقدمها، وصلاحياته أكبر من صلاحيات الدولة، كما ورد في كتابه(السياسة والحكم)و(المجتمع الإسلامي وأبعاده السياسية)و(المسلم بين الوجدان والسلطان).
والإشكال هو في كلمة(مدني)، ففي(معجم بولدوين)للفلسفة وعلم النفس، نتوقف عند مفهوم(Civil) كما ترد في هذا المعجم:
1\ متعلق بالدولة.
2\ متعلق بالتعامل”العادي”للدولة مع مواطنيها لتمييزه من التعامل العسكري والجنائي، والاكليركي أو الديني. ويُعلق عزمي بشارة على هذا التعريف بالقول:”وربما من المفيد أن نحافظ في الذاكرة على المعنى الثاني لمفهوم مدني الذي أورده المعجم، لتمييزه من الدلالات: عسكري، جنائي، ديني، أي لتمييزه من المجال العسكري ومن المجال الديني. المدني(Civil)إذاً هو علماني، أي منفصل عن شؤون الدين ومنفصل أيضاً عن الشؤون العسكرية”.
إذاً البداية في الرؤية الإسلامية تبدأ من اللغة والمصطلح، كما يقول الشيخ الترابي في كتابه الصغير الحجم الكبير المعنى(المصطلحات السياسية في الإسلام):”إن اللغة التي تعبر عن الحياة السياسية في بيئة إنما تتطور اتساعاً في التصريف ورسوخاً في المعاني مع تطور تلك الحياة والثقافة نمواً واستقراراً أو بؤساً واضطراباً”. كذلك وضع المجتمع في مكانه الصحيح، ليكون بذلك(المجتمع الرائد
والقائد)،والدولة هي إحدى مظاهره وتجلياته، وليكون بحق(المجتمع المؤمن مصدر السلطان) كما وضّح ذلك الشيخ الترابي في كتابه (السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع)، يقول الترابي:”السلطان إنما يقوم بإرادة المجتمع المؤمن. والشريعة، كما قدمنا، هي المصدر الجامع الأعلى لهدي الحياة، ولكنها بقدر الله لا تنفذ في الدنيا إلا طوعاً بإيمان الناس ومجتمعهم الذي يصدقها بسياسة أمره العام. فالمجتمع لذلك في ظاهر هذه الأرض وعاجل هذه الدنيا، هو المصدرالأعلى للحكم والسلطان، من خلال إيمانه
وإرادته وقوته السلطانية النافذة في الواقع المشهود”.
فالمجتمع المؤمن أمره كله(شورى بينهم)، وينتخب حكامه(أولي الأمر منكم)، ويحاسبهم(لا سمع ولا طاعة حتى……..)، والطاعة نفسها مقيدة بطاعة الله وتنفيذ أوامره، وهذه وغيرها كلها إجراءات حتى لا تعلو الدولة فوق المجتمع وتحجم نشاطه وتصادر طاقته وحيويته، يقول منير شفيق في كتابه(الإسلام ومواجهة الدولة
الحديثة):”وقد عرفت أكثر التجارب التاريخية الحديثة هذا الصراع بين نزعة الدولة للسيطرة واتجاه المجتمع للحد من تلك السيطرة لامتلاك المزيد من الحرية والاستقلالية والقدرة”. ونحن نتساءل ولكن لمن تكون الغلبة؟ يُجيب منير شفيق قائلاً:”إن ميزان هذا
الصراع يميل في مصلحة المجتمع في مراحل الثورات
والانتفاضات وبناء الأنظمة الجديدة، أو إذا كان المجتمع يملك قدراتاقتصادية واجتماعية وتنظيمية وسياسية وأيدولوجية ثقافية تسمح له بالتحدي والموازنة مع قوة الدولة، بينما يميل الميزان في مصلحة الدولة في حالات الحروب الخارجية أو الحروب الأهلية وإعلان
حالة الطوارئ أو الحالات التي يُسيطر فيها الجيش أو الحزب الواحد على الدولة ويجرد المجتمع من قوته الاقتصادية والتنظيمية والسياسية والأيديولوجية، ولا سيما في الدول التي امتلكت فيها الدولة المصنع والأرض والتجارة والجامعة والمدرسة ووسائل النقل والاعلام. وحرم المجتمع من حقه في التعبير عن رأيه أو المطالبة
بحقوقه”.
ويأتي السؤال المحير ولكن كيف تُنظم العلاقة بين المجتمع والدولة؟ ويتم هذا الأمر على مستويين، يقول شفيق:”على الحاكم أن يعتبر سلطته سلطة تكليف لا تشريف، ولا تحقيق هيمنة ونفوذ، وهي عقد مع جماعة المسلمين مشروطة بإقامة الشرع. وبهذا يكون الأساس
الأول الذي يضعه الاسلام لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع هو إخضاع الطرفين لعبودية الله وإخراج الأساسات والأصول التشريعية من أيديهما”. والأمر الثاني الذي يُشكّل الحل الاسلامي لهذه المعادلة الصعبة هو:”تقوية المجتمع من خلال تقوية أفراده ومؤسساته وجماعاته، من خلال العقيدة والإيمان وبواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وبحق الشورى وإعطاء البيعة وسحبها، وعدم حرمانهم من حق التصرف في الأرض ومن حقوق الملكية الخاصة، وكل ذلك من خلال المجتمع القوي المنتج، المستقل، المالك زمام أمره، والقادر على ممارسة حقوقه”.
التجربة التاريخية أثبتت أن المؤسسات التي نشأت في مجتمعات المسلمين ورعاها وصرف عليها كُتبت لها الديمومة وساهمت في بناء الحضارة الإسلامية وحافظت على تماسك هذه المجتمعات وتمسكها بدينها – رغم مفارقة السلطان لقيم الدين والقرآن – وذلك من زمن الخلافة الراشدة مروراً بالأندلس وحتى عصرنا هذا، مثل
(المسجد والأوقاف والصدقات والخلوة والمسيد والنفير والقبيلة)، مما يُمكن أن نطلق عليه(المجتمع الأهلي)،وهي تحتاج مقال لوحدها.
amekki2005@gmail.com
التعليقات مغلقة.