الأبواب المغلقة الساحة السياسية تفقد ( حكيمها) في رحيل الصادق المهدي بقلم / محمد علي محمد

 

الذين يموتون في هذا العمر ، و في أعلى قمته ، تكتشف أن لهم ( عبيرا) خاصا ، كنا نتخطاهم سهوا – او تواضعا منهم ، فهم قد بلغوا مرحلة من التواضع تواروا فيها و تستروا حتى من ( طيبهم) .
و لا نعفي غفلتنا عن ذلك .
يمضون خلسة من هذه الحياة ، لتكتشف كم كان بريقهم ؟ و كم هو جمالهم ؟ و هم غارقون في إنسانية ، تلجمك دهشتها بعد رحيلهم .
تكتشف نورهم الساطع بعد رحيلهم ، و قد كنا ننعم بذلك النور و هم أحياء بيننا ، دون أن نرد لهم الفضل .
قبل شهورا مضت فقدنا المفكر و الكاتب المعروف كرويا الدكتور منصور خالد – الذي كان شعلة في ظلماء الساحة السياسية السودانية ، و إبتسامته المتحفظة التي كانت تشكل خدمة إنسانية على مدى السنوات ، تبقى في وجهه المضيء دون إنكسار أو خفوت .
إبتسامة كان يقدمها لمن أقترب منه و للناس خالصة ، تحمل في جوفها براءة الأطفال .
قبل أن نستفيق من صدمة رحيل المفكر و السياسي الضليع منصور خالد ، صدمنا برحيل ( حكيم ) السياسة في السودان -الأمام الصادق المهدي الذي كان ( كوكتيلا) من الأفكار و المبادرات الوطنية المتقدة و المشتعلة ، و يبدو أن جسمه النحيل عجز عن أن يحتمل كل ذلك التوهج فيه ، ليرحل من هذه الحياة بعد صراع مع المرض .
صراع كان فيه الأمام الصادق المهدي متماسكا و قويا و صابرا ، لم يمنعه المرض عن التواصل مع الشعب السوداني و مكوناتها السياسية ، بشيء من المحبة و الحرص على ترتيب الحياة السياسية .
كان المهدي الذي أقعده المرض لأيام عديدة ، ممسكا عن شكواه ، لا يعلم أقرب الناس إليه مرضه ، محتفظا بنشاطه السياسي المعهود و مبادراته الوطنية المعروفة ، رغم شدة المرض و محاصرته له .
ظل الراحل في كل سنواته في الساحة السياسية السودانية محتفظا بحالة دائمة من ( الشباب) ، حتى أنه أصبغ على مجايليه في السياسة شيئا من ( الشباب) .
كان الأمام الصادق المهدي ( نحلة) توزع رحيقها على مواعين و ضروب مختلفة في السياسة السودانية ، فهو كاتب و مفكر ، إلى جانب موهبته في فن الخطابة و الإتصال الجماهيري .
يندر أن تجد الصادق المهدي في ( وضع السكون) ، فهو دائما في ( وضع الحركة ) ، إما طارحا لمبادرة وطنية او فكرة توافقية .
كان الامام في ذلك الوضع الذي يقرب للتلاشي تفانيا في نشاطه السياسي من أجل السودان.
فوق هذا النشاط السياسي و الفكري الخارق ، يلحظ الوفاء في راحلنا الصادق المهدي و هو يفني كل سنوات عمره في السياسة التي دخلها ( شابا) و لم يغادرها إلا للعالم الأخر .
كذلك لا تستطيع أن تسقط ( الأناقة) الواضحة و عباراته الرفيعة التي تميز بها ، و قد كانت تلك الأناقة و العبارات الرفيعة شيئا من حيويته في الحياة ، و هي صورة حقيقية لجمال دواخله و طيب نفسه.
لابد للساحة السياسية السودانية أن تبادل الجزاء لمن أحسن فيها ، اذ يبقى من المؤلم جدا أن يرحل الامام الصادق المهدي ( حكيم السياسة السودانية ) دون أن يرد له جميل صنيعه.
هناك أسماء كثيرة رحلت في السنوات الأخيرة – و لا نذكر منصور خالد و الصادق المهدي في هذا الموضع إلا لأنهما كانا أخر من رحل من حكماء و مفكريي الساحة السياسية السودانية .
و لا ننسى كذلك المناضل المخضرم الراحل( علي محمود حسنين ) الذي أفنى حياته في خدمة الشعب السوداني حتى جعل لها كيانا و مكانة .
نسأل الله لهم الرحمة و المغفرة ، و ننتظر دورا أكبر من حكومة و شعب السودان لتخليد هذه الأسماء و نحن ندخل في مرحلة جديدة ننتظر فيها شيئا من الوفاء .

التعليقات مغلقة.