عبد الله مكي_ يكتب: بين السياسة والذكر ” ليلة المولد يا سر الليالي “

 

المولد النبوي الشريف (تظاهرة سنوية) واحتفالية كبرى، تفوق في حسن الترتيب والاستعدادات على معظم والمهرجانات والإحتفالات، وهذا راجع– ربما– في المقام الأول إلى عظم المناسبة ومكانة (المحتفى به) في نفوس الناس، وثانياً هذه الإحتفالية (مجتمعية بحتة)، لذا اكتسبت الأهمية والإستمرارية.
فالترتيب من اليوم الأول وحتى اليوم الأخير والتمويل والتجهيز والبرامج يقوم بها المجتمع وطرقه الصوفية وجماعاته ومنظماته وأفراده على مدى الإثني عشر يوماً، لذا لو طبقنا نظرية (المجتمع القائد والرائد) والذي يسبق الدولة في ترتيب شأنه فسنحصل على مجتمع قوي وفعَال.
وأنت في (حضرة المولد) تمر بخاطرك العبر المعاني الكبرى، فمن دعوة سرية لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في بطاح مكة، ثم القذف بالقول (مجنون وساحر وشاعر وكذّاب) ثم بالحجارة (الطائف)، والهجرة للحبشة، وبيعة العقبة والهجرة للمدينة وصلح الحيبية، ثم فتح مكة، من دعوة استجاب لها رجل وامرأة وغلامين أصبحت الآن أمة (مليار ونصف) يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويحتفلون بمولده ويغضبون له ويتصدون للمسيئين له من لدن رسام الكاريكتور الدنماركي، وصحيفة (شارليبيدو) وتصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة.
هذه الدعوة غطت الشرق والغرب ووصلت حتى الصين وحدود (الإتحاد السوفيتي سابقاً)، ووصلت تخوم فرنسا، ليسأل ملك فرنسا زوجته: أتدرين ما هو أسوأ يوم في تاريخ فرنسا ؟ إنه يوم معركة (بوتييه) وتعني (بلاط الشهداء) يوم تراجعت جيوش الحق والعدل والنور، ويقصد هزيمة المسلمين في جنوب فرنسا.
هذه الرحلة الطويلة من القلة والذلة إلى الكثرة والعزة في تاريخ الإسلام لخصها الأستاذ منير شفيق في كتابه (في نظريات التغيير) في ثلاث مراحل: الإستضعاف، والتوازن الإستراتيجي والتفوق الإستراتيجي.

دامر المجذوب

من مكان عبقري تتفجر فيه ينابيع المعرفة، يقع على ضفة النيل الشرقية، امتزجت روح الحضارة، بألق التصوف، واشتعلت نار الحق والخير والجمال، فكانت (نار المجاذيب) وانتقل (النور الرباني) لُيضيئ حواضر البلاد. فأنجبت مدينة الدامر الفتى محمد المهدي المجذوب، ليملأ الدنيا ابداعاً ورونقاً من بواكير صباه، فكانت (ليلة المولد).

القصيدة السر والسحر

القصيدة وصفت (ليلة المولد) والساحة وحال المريد وشيخ الطريقة: (والذي ندبوه للملمات الخطيرة) والنوبة والطار والزي المرقع، وأخيراً حال الأمة: (ربِّ في موطني المسلم قد عدنا إليكا) فهذه ليلة واحدة فيها كل هذا (السحر والجمال) فما بالنا تتوزعنا الأهواء والصراعات والخلافات، وننسى أننا أمة واحدة. فضيعنا هذه المعاني الأصيلة والصور الجميلة التي رسمها محمد المهدي المجذوب.

الطاقة الروحية

الطاقة الروحية، والبعد الإيماني مهمة لأي نهضة، وحضارة، خاصة الحضارة الإسلامية، وذلك بعد تمدد المادية بكل أطنابها وغطت على العالم الغربي، ولم يسلم منها حتى العالم الإسلامي.
غياب البعد الروحي من الحضارة الغربية هو الذي جعلها تتسابق فيما يُسمى (العصر النووي)، وسباق التسلح، الأمر الذي جعل ميزانيات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات تذهب لهذه المشاريع (اللا إنسانية) بينما ربع هذه الميزانيات يكفي لسد رمق الملايين الذين يموتون جوعاً، ونصفها يكفي لعلاج الملايين الذين يموتون بالملاريا والإيدز وسوء التغذية في افريقيا وغيرها من دول العالم الثالث.
يقول روجيه جارودي المفكر الفرنسي، كل هذا الأمر نتيجة لغياب الغايات الكبرى في الغرب ويقارن بينه وبين الشرق حيث يقول: “الغرب تنقصه الغايات والشرق تنقصه الوسائل”.
بينما أحد مفكري الغرب الأساسين وهو فرانسيس فوكاياما– وهو ياباني الأصل– يعتقد أن الإنتصار الحضاري هو انتصار مادي متمثل في الرفاه الإقتصادي، والسعادة مربوطة بارتفاع دخل الإنسان، ولن يتم ذلك– كما يرى فوكاياما– إلا عبر اقتصاد السوق، ويُعلن انتصار الحضارة الغربية على كل الحضارات وخاصة المعسكر الشرقي، وبعد عقد نصف تراجع عن هذه الأفكار وأصدر كتابه (الثقة: دور الفضائل الإجتماعية في التنمية الإقتصادية). ثم أعلن إنتصار الغرب على كل حضارات الدنيا في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، لكنه استحى وفجأة تذكر الإسلام، فقال: “صحيح أن الإسلام يشكل ايدولوجيا متسقة ومتماسكة، وأن له معاييره الأخلاقية الخاصة به، ونظريته المتصلة بالعدالة السياسية والإجتماعية”. ثم دخل فوكاياما في تناقض واضح في ثنايا الكتاب، حيث يقول: “كذلك فإن للإسلام جاذبية يمكن أن تكون عالمية، داعياً البشر كافة باعتبارهم بشراً لا مجرد أعضاء في جماعة عرقية أو قومية معينة”. وفي نفس الصفحة والتي تليها ينقض غزله ويُناقض كلامه الذي كتبه قبل عدة أسطر، فيقول: “بالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية، فبالإمكان القول إن هذا الدين لا يكاد يكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة”.
وختم فوكاياما أن الإسلام سيكسب داخل نفوس المسلمين أنفسهم، فيقول: “فإن كان بوسع الإسلام أن يكسب من جديد ولاء المرتدين عنه، فهو لن يُصادف هوى في قلوب شباب برلين، أو طوكيو، أو موسكو”. وهذا الكلام يُكذبه انتشار الإسلام في أوروبا، ومشاركة آلاف الشباب والشابات الأوربيين في القتال في صفوف داعش، ثم بعد ثلاثة سنوات فقط انتهت نظرية (نهاية التاريخ) وجاءت نظرية (صدام الحضارات) والتي حصرت الصراع بين الحضارات الكبرى (الإسلام والصين والغرب).
والحل كما يرى جارودي هو في حوار الحضارات، وليس صدامها، وقد أسس معهداً دولياً بهذا الإسم منذ العام 1976، وألف كتاباً مهما بعنوان (حوار الحضارات) يقول فيه: “إنّ حوار الحضارات– حقيقة– ليس بجائز إلا إذا أعتبرت الإنسان الآخر والثقافة الأخرى جزءاً من ذاتي يعمر كياني، ويكشف لي ما يعوزني”.
وكذلك يقول السيد محمد خاتمي: ” الهدف من حوار الحضارات هو بلوغ الحرية، والأمن ، والعدالة، والرقي الروحي، أو بالتعبير الدارج الرقي الأخلاقي “.

نحو الملكوت

يقول محمد المهدي المجذوب في (ليلة المولد) أبياتاً تُحلق بنا في عالم الفكر الشفيف منطلقاً نحو ملكوت السماوات بحلم كبير :
وعلا فوق صــــدى الطبـــل الكريـــر
كل جســــــم، جـــــدول فيـــه خريــر
ومشـــــى في حلــــقة الذكــــر فتــور
لحــــظة يذهل فيها الجســــم والــــروح تنير
وعيون الشيخ أُغمضن على كون به حلم كبير

ليلة المولد وحال الأمة

الناظر لوضع الأمة الإسلامية وحالها في ليلة المولد يجد وبلا أدنى شك أنّ حال الأمة الإسلامية لا يسر أحداً، خاصة فيما يتعلق بوحدتها السياسية، ورؤاها الفكرية، ونُظمها الإجتماعية والتعليمية، وأوضاعها الإقتصادية.
فبعد الخروج من الفترة الإستعمارية البغيضة، ما زلنا نُعاني من الهزيمة السياسية، والتبعية الإقتصادية، والضعف على المستوى الدولي، وقبله الخلل والوهن على المستوى الداخلي، فتوزعنا دولاً ومعسكرات، منا من يتبع الغرب ومنا من يتبع الشرق، وحتى الإسلام– والذي من المفترض أن يكون عامل توحيد بيننا– وزعناه وحزبناه وأسميناه أسماءاً متعددة فهناك الإسلام الرسمي والشعبي، والصوفي والسلفي، والسني والشيعي. فقام صاحب (ليلة المولد) بوصف زماننا هذا في قصيدته وبعده تساءل :
فزمانــــي ولع بالمنـــــكر
درج الناس على غير الهدى
وتعادوا شهوات……وتمادوا
لا يبالون وقد عاشوا الردى
جنحوا للسلم أم ضاعوا سدى
أيكون الخير في الشر انطوى ؟
أتراها تقتل الحرب وتنجــو بالسلم
ويكون الضعف كالقوة حقا وذماما
ســــــــــوف ترعــاه الامــــــــم
وتعــــــــود الأرض حبــا وابتساماً
ليلة المــــولد يا سر الليالي والجمـــال
وربيـــعاً فتن الأنفس بالسحر الحــــلال
موطني المسلم في ظلك مشبوب الخيال

فهل يُرقق أدبنا وشعرنا الشفيف، جوانب السياسة الخشنة والجافة، وهل تتحرك الأمة وتتوحد وفق الذكر الحكيم، وهل يُهدي الذكر السياسة ويُطهرها من الكبر والحسد والتباغض وشح النفس وحب السلطان والظلم والطغيان ؟
ومتى تستيقظ الأمة من سباتها ؟ وهي تتآكل من أطرافها ويتزاحم الأكلة على قصعتها، بل تهرول للتطبيع مع العدو وتمد رقابها للذبح؟ فلنجعل من ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة لبعث الروح المعنوية ورفع الهمة بداية للمشوار الطويل.

عبد الله مكي
amekki2005@gmail.com

التعليقات مغلقة.