عبد الله مكي يكتب ..المجتمع المدني والسياسة (2 – 3)
السؤال الرئيسي الذي يتبادر للأذهان هو من أين أتت فكرة أنّ المجتمع المدني ليس
له علاقة بالسياسة ؟ وإنما هو مجتمع خدمي وتطوعي فقط !
تعمل الحكومات الشمولية – خاصة في دول العالم الثالث – على إبعاد المجتمع
المدني من العملية السياسية، وعدم المشاركة فيها، وتُنجز هذه المهمة عبر نشر
فلسفة (أنّ المجتمع المدني مجتمع خدمي تطوعي للقيام بالأعمال الخيرية والإعانات
للمجتمع بكل شرائحه ومكوناته واحتياجاته)، ومن ثمّ تمّ إفراغ المجتمع المدني من
محتواه ومن وظيفته الأساسية وهي العمل من أجل الحريات والديمقراطية والعمل
على حماية المواطنين والمؤسسات المختلفة من تغول الدولة عليهم، يقول عزمي
بشارة في كتابه (المجتمع المدني دراسة نقدية): ” ومرة أخرى لعب المجتمع المدني
خارج أوروبا دوراً مشبوها، دور القابلة المتسترة على عملية إجهاض سياسية،
عملية لا(تسييس)، أو دور العميل المزدوج الذى يُعادي السياسة باسم الديموقراطية،
ثمّ يُدير ظهره للديموقراطية باسم كونها معركة سياسية، والواجب هو ليس خوضها
وإنما بناء المجتمع المدني. والمجتمع المدني دون سياسة وخارج سياق المعركة من
أجل الديموقراطية هو عملية إجهاض “.
المجتمع المدني والدولة
إنّ جموع المواطنين – خاصة في العالم الثالث – مشكلتها الأساسية أنّها لا تثق في
الدولة كجهاز ومؤسسة، ولا تثق في الحكومة كإدارة وكسلطة، وعادة ما يرجع
السبب لكون الدولة دولة تسلطية، وكذلك الحكومات غير منتخبة ديمقراطياً(أي غير
قانونية وغير شرعية)، بالإضافة إلى أنها ضعيفة وعاجزة عن الإيفاء بمستحقات
المواطنين، يقول أنتوني جيدنز في كتابه (تجديد الديمقراطية الإجتماعية): ” إنّ عدم
الثقة في الحكومات على كل المستويات يرجع في جانب كبير إلى كونها عاجزة
وغير فعالة، هذا الأمر الذي جعل مصطلح مثل(البيروقراطية) وبكل ما يحمل من
دلالات ومعاني، يُشير إلى الحكومة “.
وفي بحث له بعنوان : عوائق تكوين المجتمع المدني في الدول العربية، يقول الكاتب
ليث زيدان : ” والدولة أيضاً في هذه المرة لم تمانع من انشاء مثل هذه التنظيمات –
طالما انها لا تمس بشرعية وجودها – حيث نظرت إليها كتعويض – قد يكون
مرضياً لطبقات المجتمع – عن انسحابها من دورها السابق في الانتاج والخدمات
من أجل تلطيف حدة المشاكل الاجتماعية ومحاولة إعادة تعزيز شرعيتها التي باتت
على حافة الهاوية “.
أما الحكومات الديموقراطية، فيرى الكثيرون وجوب توسيع الديمقراطية فيها حتى
لا تكون على المستوى المحلي أو الوطني فقط، يقول جيدنز : ” فالدولة يجب أن
تكون لها نظرة كونية، فنشر الديمقراطية إلى أعلى لا يجب أن يتوقف على
المستوى الإقليمي “. وأشار جيدنز : ” أنّ نشر الديمقراطية إلى أسفل يعني تجديد
المجتمع المدني “.
ولم تستطع منظومات المجتمع المدني(بجمعياتها ومنظماتها وأحزابها ومؤسساتها)
أن تتوطن داخل الدولة في العالم الثالث، وخاصة في الدول العربية، يقول الأستاذ
ليث زيدان مشخصاً هذا المرض العضال : ” لو كنت طبيباً سياسياً، لاستطعت من
خلال الكشف الأولي على الدولة العربية ، أن أُشخص مرضها ديمقراطياً، بأنه
عسر هضم لمفهوم المجتمع المدني، فالدولة العربية استطاعت أن تدخل في
احشائها العديد من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات المجتمعية والأحزاب
السياسية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، بدون أن يسمح نظام الحكم فيها
بتغلغل أي منها في شرايين الدولة والمجتمع لتسقط بذلك فائدة وجودها اصلاً “.
المجتمع المدني و(فصل السلطات)
حرص المجتمع المدني وطوال فترة تأسيسه على العمل بمبدأ(فصل السلطات)،
وذلك حتى يضمن تطبيق مفهوم العدالة في الدولة، وذلك لأنّ هذه السلطات دائما ما
تكون في صراع مستمر على السلطة والنفوذ، يقول أنطونيو جرامشي : ” إنّ مبدأ
الفصل بين السلطات وكل ما أثار تطبيقه من مناقشات وما تمخض عنه من مذاهب
قانونية، هو نتاج للصراع بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في فترة تاريخية
محددة “.
ويواصل جرامشي توصيفه عندما تتوحد الدولة وتتمايز سلطاتها الثلاث(التشريعية
والقضائية والتنفيذية) ويعلن تخوفه تحديدا من سلطة الدولة التنفيذية، حيث يقول:
” حينما تتمايز السلطات نحصل على برلمان أوثق ارتباطاً بالمجتمع المدني، وسلطة
قضائية تنتصب مابين الحكومة والبرلمان، وتُمثّل استمرارية القانون(حتى ضد
الحكومة). وتجدر الإشارة إلى التأثير المدمر للإنحرافات في إدارة العدالة بالذات
وانعكاسه على الجمهور، فهذا هو أكثر قطاعات جهاز الهيمنة حساسية، الجهاز
الذى قد يُحال إليه أيضا الأعمال التعسفية للبوليس والإدارة السياسية. ولكن أليس
معنى هذا أنه ينبغي أن ننظر إلى الدولة لا باعتبارها جهازا للحكم فحسب، بل
باعتبارها أيضا جهاز(الهيمنة الخاص) “.
في كثير من الدول تحرص منظومات المجتمع المدني على تقوية وزيادة صلاحياتها
وذلك عبر الدستور والقوانين المختلفة، كما وتعمل على بث الوعي بين المواطنين
وذلك لمعرفة حقوقهم والقيام بواجباتهم حيث تقوم منظمات المجتمع المدني في هذا
العصر بحماية المواطنين، يقول أنتونى جيدنز : ” إنّ المجتمع المدني الصحيح هو
الذى يحمي الفرد من القوة الطاغية التي تملكها الدولة “.
والمجتمع المدني نفسه يواجه سلسلة من التهديدات، أهمها العنف الصريح الممارس
ضد قادة المجتمع المدني، مرورا بالقيود القانونية المفروضة على منظمات المجتمع
المدني، وصولا إلى قطع التمويل المفاجئ(من الحكومات أو الممولين الخارجيين).
المجتمع المدني والأحزاب السياسية
شهدت ساحة المجتمع المدني فى دول العالم الثالث صراعا محموما بين الأحزاب
السياسية المختلفة ، وذلك في النقابات والإتحادات والجمعيات والمنظمات المختلفة،
ويُفسّر هذا الأمر غياب الحريات والإنتخابات على مستوى السلطات الثلاث في
الدولة (التنفيذية – التشريعية – القضائية)، الأمر الذي جعل فضاءات المجتمع
المدني ساحات تدور فيها معارك محتدمة بين هذه الأحزاب لإثبات الوجود وكسب
المؤيدين والأنصار، وتمرير الأجندة الحزبية والبرامج المصاحبة، وكسب لأراضي
جديدة، تظهر من خلاله صورة الحزب الفائز والمسيطر على المنظمة والمؤسسة
المعنية، الأمر الذي جعل هذه المظومات ترتبط بأيدولوجية الحزب المعني أكثر من
عمل المنظمة نفسها، مما أورث ورسخ في نفوس أعضاء هذه المنظمات روح
الإقصاء والإستئصال.
أمّا أنشط الأحزاب مشاركة في منظمات المجتمع المدني – خاصة المنظمات الدولية
والإقليمية – هي الأحزاب اليسارية ، فبعد انهيار المعسكر الشرقي وتراجع كسب
الأحزاب الماركسية والشيوعية، أصبحت هذه المنظمات تُمثّل حالة من(الرضى
النفسي) كبديل لأحزابهم المنهارة، بالإضافة لمحاصرة التيار الإسلامي المتمدد عبر
الأحزاب والجماعات والحكومات. يقول الدكتور عزمي بشارة في كتابه(المجتمع
المدني – دراسة نقدية): ” أدار مثقفو اليسار والحركات القومية ظهورهم للعمل
السياسي، أو للمجتمع السياسي، وبدل الإعتراف بالإخفاق راح بعضهم ينظر إلى
حسم المعركة في مكان آخر غير المجتمع السياسي ، وهذا المكان هو المجتمع
المدني. وبدلاً من خوض معركة الديمقراطية على ساحة الدولة بالتنظيم السياسي
المساند من قبل المؤسسات المجتمعية ، انطلق أعضاء وناشطوا هذه الأحزاب في
(منظمات غير حكومية) ومراكز أبحاث وغير ذلك، مطلقين على هذه المنظمات
تسمية المجتمع المدني “.
ونواصل
التعليقات مغلقة.