يوسف لبس فريد عصره وفرقدان زمانه. بقلم عبدالله مكي
.
والشيخ الترابي يطّلع على الورقة التي أعدها (معهد السلام الأميركي) والتي كانت تحت عنوان: (الطريق إلى الحوار الوطني في السودان) وكتبها كل من برينستون ل. ليمان، وجون تيمن في١٣ أغسطس، ٢٠١٣ وأهم ما جاء فيها:
(لقد حان الوقت لأن يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي، وعملية إصلاحية تؤدي إلى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة، وديمقراطية وقادرة على السعي نحو عملية مصالحة مجدية بين السودانيين).
وقبله قرأ تقرير مجموعة الأزمات الدولية(ICG) في نوفبر 2012 والذي كان عنوانه: (السودان: إصلاحات رئيسة أو مزيد من الحرب)، وتحدث صراحة عن :(البدء في حوار وطني وفترة انتقالية متحكم فيها، تضم كلاً من المؤتمر الوطني ونخب المعارضة)، وأيضاً طالب التقرير بتأجيل المادة 16 من نظام روما الأساسي، والمتعلقة بالمحكمة الجنائية، وذكر التقرير عن الرئيس البشير القول: (هو مخرّب أساسي، لكنه ضروري لأي عملية انتقالية متحكم فيها).
وخلص التقرير إلى الآتي:(تشكيل حكومة انتقالية شاملة وابتدار حوار وطني هادف)، بل حددوا حتى شروط ومواصفات هذا الحوار، بأن يكون: (شاملاً من حيث جدول الأعمال، جامعاً من حيث المشاركين فيه، شفافاً كيما يرفع الوعي بين المواطنين)، وحدد التقرير خمس قضايا يجب مخاطبتها في مؤتمر الحوار:
الهوية، طبيعة الدستور، الفدرالية وتقاسم السلطة، تقاسم الثروة، العدالة الانتقالية)، قارنها مع أوراق الحوار الست الرئيسية.
والأمريكيون يريدون تحقيق وتأمين مصالحهم، في المنطقة والإقليم، وذلك عبر استقرار سياسي في السودان، ولكن بشروط أمريكية في محاربة الإرهاب، وعمل السودان معهم بجد في هذا الملف خاصة في فترة رئاسة صلاح قوش لجهاز الأمن والمخابرات. ومكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، والمساهمة في استقرار جنوب السودان، بعد أن لحق بالدول الفاشلة، وأمريكا تتحمل الوزر الأكبر في انفصال جنوب السودان.
وفي الداخل حدثت انقسامات ومذكرات داخل المؤتمر الوطني، فخروج (سائحون) ومذكرة (الألف أخ )، وانقلاب ود ابراهيم وقوش واحداث سبتمبر 2013، وخروج غازي صلاح الدين ومجموعته من المؤتمر الوطني، ثم برنامج المؤتمر الوطني لإصلاح الحزب والدولة، جعلت المؤتمر الوطني يذهب في اتجاه الحوار الوطني.
وشرع المؤتمر الوطني في الإتصال بالقوى السياسية جميعاً، فوافقت جميع القوى عدا أحزاب اليسار، وتم الاتصال أيضاً بشخصيات قومية وفكرية ومجتمعية وأكاديمية وسياسية، وكان على رأس هؤلاء الدكتور منصور خالد.
وبقيت هناك شخصية محورية وزعيم حزب سياسي، وهو الشيخ حسن الترابي، وكان معارضاً شرساً للحكومة منذ 1999 (واعتقلته الحكومة مدة أطول من باقي الزعماء السياسيين الآخرين) ودعا لاسقاط النظام، ولتسليم البشير نفسه للمحكمة الجنائية نتيجة لجرائم الحرب في دارفور).
فالترابي وضع عدة شروط للدخول في حوار مع المؤتمر الوطني، شروطاً عامة، وأخرى إجرائية، أهم الشروط العامة أن يكون الحوار شاملاً لكل القضايا في البلد وفي نفس الوقت شاملاً لكل الناس لا يستثني أحدا، وأن يكون داخل البلد وليس خارجها.
والشروط الإجرائية كان أهمها إطلاق معتقلي المؤتمر الشعبي.
استجابت الحكومة للشروط، وأطلقت جميع المعتقلين، إلا واحداً. إنه المهندس يوسف لبس.
يومها فقط عرفت (خطورة الرجل) على نظام البشير، والشيخ الترابي أصر كعادته (الشيخ عنيد) أنه إذا لم يطلق سراح يوسف لبس (لا حوار مع النظام)، وعندها عرفت (قيمةالرجل).
فأصبح الحوار ومستقبل البلد كله معلق ومرهون بإطلاق سراح رجل واحد! والوفود تذهب وتجيئ، وللأمانة والتاريخ فقد ساهمت جهات كثيرة وشخصيات عدة في إطلاق سراح الرجل، واهم تلك الجهات كانت مبادرة الإصلاح والنهضة والتي اشتهرت باسم (سائحون)، وأهم الشخصيات هو الشيخ عبد الله علي خلف الله الأمين الأسبق للمؤتمر الشعبي بولاية نهر النيل، ومن أجل إطلاق سراح الرجل، اضطر لمقابلة شخصية كبيرة في النظام، ويومها (أي قبل الحوار الوطني) كانت مقابلة شخصية قيادية من المؤتمر الوطني تعد من (الكبائر)، ولولا (سقوط حكومته) وهو يقبع الآن في سجن كوبر لذكرنا اسمه .
وشيخ عبد الله علي خلف الله يجادل عن أخينا وشيخنا يوسف لبس، فيقول القيادي بالوطني بالحرف الواحد (يوسف دا ما عليه حاجة، لكن نحن عارفين لو طلع من السجن، حا يمشي الجبل وينظم عمل الحركات المسلحة، وحا يجي يسقط النظام دا في 24 ساعة فقط).
وعندما سألت عن القيادي في المؤتمر الوطني، ولماذا قال هذا الكلام، علمت أن المهندس يوسف لبس كان مسؤوله المباشر وهو الذي دربه وعلمه العمل الاستراتيجي) عندها فقط علمت لماذا لم يطلق سراح الرجل.
ثم قامت الحكومة بإطلاق سراح يوسف محمد صالح لبس، بعد 12 عاماً من الإعتقال، وشهدت ساحة منزله بضاحية (عد حسين) جنوب الخرطوم جموعاً لم تشهدها من قبل، فقد جاء كل أهل السودان ليُشاهدوا البطل صاحب سجل أطول اعتقال في حكومة البشير، بل الحكومات السودانية قاطبة.
وسط الزحام وصلنا الرجل وسلمنا عليه، وكانت هي المرة الأولى التي أشاهده فيها (وجهاً لوجه)، وسلمت عليه وعرفته بنفسي، وبتلقائية رحّب بي وسألني عن إخواني (صالح وعمر) فقلت له هم بخير، وعرفت أن للرجل ذاكرة حديدية وعلاقات حميمية مع الجميع، وكذلك عرفت أن إخوتي (الصغار في السن) والكبار في المعنى كانا يعملان في (ملفات خطيرة لإسقاط النظام)، والتقينا مرة ثلاثتنا مع الشيخ المهندس يوسف لبس في منزل الشيخ الترابي في جلسة الثلاثاء المشهورة، فسألني بابتسامته المعهودة وفكاهته: أكبر انت ولا الجماعة ديل؟ فقلت له: مجرد هذا الشك يكفيني ورفع معنوياتي، لأني أكبر أحدهم بسبع سنوات والآخر باثنتي عشرة سنة، وضحكنا وذهب كل منا لحال سبيله.
وجاء الشيخ الترابي وخاطب جموع الناس في عد حسين، وكان مما قاله وشرحه ما يُسمى بـ(المحتملات الأربعة) لتغيير النظام:
أولاً: الانقلاب العسكري، وهذا جربناه ولن نعود إليه.
ثانياً: الثورة الشعبية، في ظل التشظي السياسي والوضع الاقتصادي المنهار ستمزق البلد وتُحدث فوضى.
ثالثاً: العمل المسلح، أيضاً سيُفكك البلد وتكون هناك دكتاتورية جديدة.
رابعاً: الانتقال بلطف، للحريات والديمقراطية، وكان قد وضع ملامحه في (وثيقة البديل الديمقراطي) لقوى الاجماع الوطني.
الدكتور محمد أحمد فقيري أحد الشباب النابهين في المؤتمر الشعبي – وأمين أمانة الفكر لاحقاً – التقط الفكرة، وقال لي: واضح إنو دا خط سياسي جديد، والترابي يعني ما يقول، ولذا بعد دخول الترابي للحوار الوطني وحضوره لقاعة الصداقة مع كل من الصادق المهدي وأبناء الميرغني ومنصور خالد، وبدء فعاليات الحوار الوطني كتبت مقالاً استوحيته من عبارة (الانتقال بلطف) وساعدني فيه دكتور فقيري، واسميت المقال:(خيارات الترابي الإستراتيجية : من الإسقاط العنيف للإنتقال اللطيف) ونشرته في صحيفة الخرطوم.
وبعدها تم تكليف المهندس يوسف لبس بأن يكون نائباً للأمين السياسي وقتها كمال عمر، ليقع عليه عبء مشروع الحوارالوطني، وكان من أصدق الفاعلين في حواراته واتصالاته، وضرب نموذجاً في أن (أطول سجين في عهد الانقاذ) يدعو للحوار والمصالحة.
وعن عفوه وصفحه يُحدثكم الأستاذ الصحفي قرشي عوض، والذي أجرى معه حواراً مطولاً، وقال لي: أنه رأى العفو والمصالحة مجسدة أمامه في رجل يُدعى يوسف لبس.
وفي أيام ثورة ديسمبر وقبل شهرين من سقوط النظام ذهبنا في معيته للدكتور الشفيع خضر لأداء واجب العزاء في وفاة شقيقه الأكبر، وعندما عرّف بنفسه وبقية الوفد، قال له الشفيع خضر، (انت ياهو ذاتو الزول الكان معتقل 12 سنة ؟) فقام دكتور الشفيع وسلّم عليه بالأحضان مرة أخرى، وقال له بنص العبارة: “أنت بطل حقيقي” وكنا نتضامن معك، وقال ليه نحن الشيوعيين ديل لمن الواحد يتم سنتين سجن، لمن يطلع بيعمل فيها جيفارا)، أما بقية الكلام فللمجالس أسرارها).
وكل شخص في هذه البلاد يُريد أن يقوم بعمل أي مبادرة للإصلاح والتوافق، كان يدعوه ويستشيره، حتى النائب البرلماني المستقل (برطم) عمل مبادرة في أيام البشير الأخيرة، وكان قوامها أن الحل ليس في (تقعد بس) أو (تسقط بس)، وذهبنا مع المهندس يوسف لبس ومعنا ثلاثة شباب لتلبية دعوة برطم في منزله (البيت الأبيض) كما يُسمى، وتحدث يوسف لبس حديث العارف بالسودان وأهله ووضع لـ(برطم النقاط على الحروف) إذا أراد لمبادرته أن تنجح.
وعن قوميته وحبه للسودان اسألوا أهل ولاية نهر النيل وتفاصيل الزيارة التاريخية التي قام بها وجولاته وصولاته على القيادات المجتمعية والقوى السياسية وشيوخ الطرق الصوفية.
والرجل نافس شيخه الشيخ حسن الترابي في ثلاث:
أولاً: المكوث في السجن لمدة طويلة.
ثانياً: العفو والصفح عن الذين اعتقلوه.
ثالثاً: كان حريصاً على (الإسلام ألا ينحسر وعلى السودان ألا ينقسم).
والأخيرة هذه كان يعمل لها حتى آخر يوم في حياته، فقد شهد منزل الشيخ الترابي مساء يوم السبت 26 سبتمبر 2020م، جلسة دعا لها الدكتور مختار همزة أمين المؤتمر الشعبي بولاية البحر الأحمر وهي الثانية حول الأزمة بولاية البحر الأحمر وأحداث مدينة بورتسودان المتلاحقة، حيث كانت الجلسة الأولى للأمانات ذات الصلة (الأمانة السياسية، وأمانة النظم الأهلية، وأمانة السلام والمناطق المتأزمة، والاتصال التنظيمي)، وفي الثانية تم توسعة حضور الجلسة، وأمّن المهندس يوسف لبس على كل الجهود المبذولة، وشدد على دعم مجهود ولاية نهر النيل وما قامت به إداراتها الأهلية من دور، وأهم شيئ دعا لعقد مؤتمر جامع لكل أهل السودان ويشمل الإدارات الأهلية والطرق الصوفية، للمساهمة في حل مشاكل البحر الأحمر وشرق السودان، حتى لا يتشظى ويتفكك السودان.
وبعد نهاية الجلسة تناولنا وجبة العشاء وشربنا الشاي سوياً، واكتشفنا بعد نهاية الجلسة أن لا أحد معه سيارة، فقلت له: يا باشمهندس، وين عربيتك ؟ والله ما فيها بنزين ؟ فضحك ولم يرد علي، وقام أخونا الأكبر عصام الترابي بتوصيلهم ومعه شيخنا جبريل النيل ودهب محمد صالح، فذهبنا إليهم في السيارة وودعناهم، وقلت لهم : انتو كلكم ناس المركز (ناس الخرطوم) وما حا تقطعوا كبري، أما نحن فناس الهامش (ناس الحاج يوسف) فضحكوا، وقال لي عم دهب، مركز شنو، كلنا جنوب الحزام!
افترقنا منتصف الليل ليعلن منتصف النهار عن وفاة شيخنا ومعلمنا المهندس يوسف لبس، ولولا أن الموت حق، ولكل أجل كتاب وكل نفس ذائقة الموت ، لحدث لنا ما حدث، فمن قلب النزول المظلي في (فشلا) بجنوب السودان، للموت في قلب شوارع الخرطوم، وهنا فقط تذكرت خالد ابن الوليد.
وإما تشييع الجثمان فكان فعلاً يليق بمقامه ومقام أهل السودان، وذكر لي شخص – لم أعرفه – وقال لي : يا ولدي لسة السودان بخير. أما المهندس عبد الله عبد الوهاب فقال لي : أنا مولود في الخرطوم، ولم أشهد تشييعا مثل هذا، أما الأستاذ سيف الدين حسن الاعلامي المعروف وصاحب سلسلة (أرض السمر)، فقد وثق التشييع وقال لي: لم ير مثل هذا التشييع إلا يوم وفاة الشيخ حسن الترابي.
ألا رحم الله المهندس يوسف لبس رحمة واسعة وتقبله الله قبولاً حسناً واسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجعله الله من السابقين الأولين.
التعليقات مغلقة.