الصالح يوسف محمد صالح: جمل الشيل وجبل التسامُح
بقلم : صديق محمد عثمان
– وبالفعل سار شيخ عبيد مع يوسف حتى مدخل كوبري النيل الأزرق وودّعه على أن يلتقيا عند صلاة الفجر، وعاد شيخ عبيد ووقف يصلي ويوسف يمشي ما قطع وادياً ولا سلك طريقاً إلا وشيخ عبيد معه، حتى عاد قبيل الفجر بقليل يحمل أوراقه.
– عندما وقعت المفاصلة في صفوف الإسلاميين، كان يسكن منزله بعِد حسين، وكنت أنا أسكن السلمة، ولم يكن لي سيارة فكان يتصل بي ثم يمر بي ليأخذني معه. وذات يوم قال لي: والله أنا عايز اقترح عليك اقتراح، لكن خجلان منك!! فسألته وما ذاك؟! فأخبرني بأنه كان قد اشترى سيارة كورولا من الدلالة ولكنها تحتاج إلى صيانة، فإن شئت أصلحها وأخذتها، فقلت له ولماذا تخجل؟ فأجاب بأنه يخجل أن يعرض عليّ سيارة كهذه وأنا الذي نزلت للتو من سيارة لاندكروزر!! وضحكنا…. فمطاردات إخواننا لنا لم تتأخّر كثيراً، وأعفتنا من حرج النزول عن ظهر السيارات الفارهة أو ترميم أخرى، فأصبحنا أنا ويوسف وآخرون من طرائد السلطة تطلب رؤوسنا بأغلى ثمن وتدفع بسخاء من نبل الإخاء وصدق مودّته ومتانة نسيجه.
– أفلت أنا من بين براثن الاعتقال بالاحتيال السهل، بينما دخل يوسف المعتقل أول مرة في زمرة من إخوانه، خرج معظمهم وبقي هو في غيابات الجب، كانوا يتعاقبون عليه وهو الثابت كأنه مرق البيت وهم الرصاص. خرج الأخ د. عيسى بشرى ذات مرة وتساءل (إنتو يا اخوانا ليش ما كلمتونا إنو عندكم نصف نبي في كوبر؟)، ثم قص علينا كيف أنهم بعد شهر أو شهرين اضطرت الأمراض المزمنة، معظمهم إلى التردد على عيادات الطبيب وطلب مقابلة الأخصائيين على ما في ذلك من مشقة ذل السؤال، لأن سلطات الأمن كانت تستخدم الحق في العلاج كمنحة تتطلّب من المُعتقل إظهار الامتنان خاصة انه يترتب على هذه الأمراض المزمنة من مراعاة أنواع الطعام. ولكن شخصاً واحداً كان لا يطلب أبداً مقابلة طبيب أو تنظيم طعام وذلك هو يوسف.
– خرج يوسف من الاعتقال الأول، ليعود إليه في العام 2004 ويمكث فيه اثني عشر عاماً، تفننت خلالها سلطات الأمن في ابتزازه وإرهابه وترغيبه. كان أحياناً يجد السانحة ليهاتفني من داخل المعتقل، فأعيد الاتصال به فوراً ليوم أو يومين، لعلمي بأنه سيضطر إلى الاستغناء عن شريحة التلفون، ورغم محنة الاعتقال كان حاضر الفكاهة يحكي لي عن استخدام الكلاب البوليسية لتفتيش زنزانته في الثالثة فجراً بحثاً عن شرائح التلفون أو الرسائل، ثم يبدأ بالسؤال عن الأهل وأسرتي الصغيرة.
– وخرج يوسف وقد أثّر مرض السكر على صحته الجسدية وبصره، لكنه لم ينل من روحه وعزيمته وشموخه فوق محاولات الإذلال وكسر الإرادة. انكسرت إرادة الجلاد الذي تجاوز حكم المحكمة فأعاد اعتقاله بعد انقضاء مدته المقررة. فالديكتاتور دائماً هو شخص أو كيان جبان، لذلك يجند نصوص القانون ومؤسسات العدالة ويستجيب له بعض الموظفين والعدالة من دون وظائف السلطة الأخرى لا يحققها موظف يتبع بروتوكولات النصوص فيعفي بها نفسه عن مسؤولية نصب ميزان العدل، ولكنها مثل مهمة الدفاع عن الوطن وظيفة ينبغي على من يقبل عليها أن يعلم أن ربع أجرها فقط هو الذي يدفعه السلطان، أما بقية الأجر فالربع الآخر يدفعه المجتمع حينما يعرف للقاضي العادل نزاهته، وللجندي تفانيه في الفداء، ثم نصفها الآخر كله جزاء مرجو عند رب السلطان، لذلك قيل (ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء)، ولذلك قيل (قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار).
– بعد خروجه من المعتقل، كانت السلطة ترجو وتتمنى، بل لعلها لم تخفِ رغبتها أن يتسلل يوسف إلى إحدى حركات الكفاح المسلح، ولعلهم أطلقوا سراحه أملاً في ذلك، فهو من الذين يتسبّب وجودهم في الخرطوم في حرج عظيم لآلاف الذين كانوا في السلطة حينها. لكنه خيّب توقعاتهم… جاءته دعوات من مراكز ومؤسسات للمشاركة في ندوات ومؤتمرات خارج السودان ولكنه اعتذر عنها جميعاً. أذكر أنه ذهب مع بعض إخوانه لتلبية دعوة كرامة أقامها أحد الإخوان احتفالاً باكتمال بناء منزله، فلما دخل يوسف رفع رأسه ينظر إلى الصرح الذي بناه ذلك الأخ الذي خف إلى استقبال ضيوفه، فمد يوسف يده يصافحه وهو يتساءل في عفوية غير مفتعلة (إنت يا أخونا نسيت الآخرة ولا كيف؟). لم يتنطع يوسف أو يتهم أخاه بالفساد أو السرقة، وكان يعلم أن الإنسان يمكنه أن يكتسب من المال أضعاف ما تساويه قيمة ذلك المنزل، فهو لا يتخذ من ذلك دليل فساد، لكنه استغرب فساد المعيار!! كيف ينفق الإنسان على منزل في هذه العاجلة ما يمكنه إنفاقه لبناء منزل الآخرة؟ ولعل تلك الحادثة تلقي الضوء على شخصية يوسف، فقد اشترك هو وسميه جبريل النيل في بناء قطعة أرض بحي عِد حسين جنوب الخرطوم في ذات التوقيت الذي انطلق فيه بعض أقرانهم في الحركة الإسلامية الذين تسنموا السلطة يشيدون المنازل في الرياض وغيرها من أحياء الدرجة الأولى. ولو شاء يوسف وجبريل لاشتريا القصر الجمهوري.
– وهذا هو بالضبط نوع الحرج الذي كان يسببه يوسف للبعض، فمهما بنوا البيوت فارهين، واعتلوا المناصب شامخين، فقد كانت كرامتهم تسقط تحت أقدامهم حينما يدخل عليهم أو يدخلون هم مكاناً يتوسّطه هو. فاستقامته مثل مُعطِّر جو يبطل فعل دخان الزهو السلطاني، وكلماته كالماء الذي يغمر خمر السلطة فيبطل مفعولها، وتواضعه يزدري بصولجان الحكم، وصموده يكسر قرون الطغيان الشيطاني (أنا شمخنا على الطاغوت في شمم نحن الرجال وهم يا أم أشباه).
– بقي يوسف في المعتقل اثني عشر عاماً، كانت خلالها (حكومة الوحدة) الوطنية مشغولة عنه بتقسيم غنائم الاشتراك الجنائي في أكل ثمار مجهوداته ومجهودات جبريل النيل وعشرات الآلاف من إخوانهم الذين بسطوا الاتصالات من الجنينة إلى بورتسودان، وقضوا الأشهر الطوال في مواقع البترول ينقبون عنه نهاراً ويحرسونه ليلاً. وانقضت سنوات قسمة الموارد والمناصب والامتيازات بين النخب السياسية، وذهبت عائدات النفط لشراء السيارات والفلل الرئاسية والذمم الرخيصة، وتمخّضت إرادة المجموع السياسي عن رهن الوطن لامرأة تدير مفاوضاته في نيفاشا لتصنع لنفسها دويلة جديدة تتكفّل لها بمنصب في الأمم المتحدة لبضعة أعوام، ومادة غزيرة لكتابين نشرت فيهما غسيلنا الوطني القذر وحصدت عائداتهما المادية بما يؤمن لها معاشاً مريحاً وصفة خبيرة في الشأن السوداني تسوق بها كلامها في منابر المثاقفة الغربية، وهنا في هذا العالم الذي يطلق على نفسه (عالماً أول) في زهو بليد؛ ما أسهل أن تعلق على صدرك صفة خبير بشأن بلاد القرود والسود.
– وحينما خرج يوسف أخيراً من الاعتقال، كان بعض الذين أكلوا ثمار مجهوداته قد مسحوا أفواههم بـ(فوطة) التذاكي السياسي، وأصبحوا معارضين سياسيين من جديد، بينما هرع إليه بعض إخوانه السابقين يطلبون عفوه وتجاوزه، وربما جلس بعض أولئك أمام يوسف مزهواً بسنوات (نضاله) ضد الإنقاذ، وقطعاً فإن بعض إخوانه في السلطة حسبوا أن صفحه عنه كافياً ليعودوا إلى ما كانوا فيه، فطفقوا يبحثون عن ضحايا جدد فوجدوهم في ود إبراهيم وصحبه. ودارت الكاس حتى شرب منها صلاح قوش نفسه!!
– فات على بعض أهل السلطة، أن عفو المظلوم وتجاوزه أعظم من إصراره على استيفائه حقه وطلبه التعويض عن ظلمه، لأن العفو والصفح والتجاوز يرفع سقف التنافس على الخيرات والفضائل، فيلقي على صاحب السلطة وزناً مضاعفاً وحجماً عظيماً من مسؤولية جبر كسر الشأن العام الذي أفضى إلى الظلم بادئ الأمر. وفات على شركاء أهل السلطة خلال سنوات اعتقال يوسف أن (فوطة) التذاكي السياسي لا تمسح كل آثار حليب السلطة الذي يتقطّر من جنبات أفواههم فوق ملابسهم السياسية.
– فات على أولئك مغزى تجاوز يوسف لبس، عن ظلمهم، فظنوا أن عفوه يمنحهم الإذن بالاستمرار في الظلم باستثنائه هو، وفات على شركائهم السابقين وخلفائهم الحاليين مغزى صفح يوسف لبس فلما آلت إليهم السلطة شرعوا باسم الثورة في ارتكاب ما كان يرتكبه أولئك باسم مشروعية الانقلاب، فكانت النتيجة كما تعودنا دائماً ان شابهت الثورة الانقلاب وكاد كتفها أن يلحق بكتفه لولا إعاقة طبيعية وعرجٌ في قدميها وحَولٌ في عينيها.
– لذلك سيكون على إخوة يوسف الذين قال لهم (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) أن يعودوا إلى ذات المقام الذي وقف فيه يوسف، يحملون لواء المباديء والقيم التي نذر لها حياته، وسيكون على شركائهم السابقين وخلفائهم الحاليين أن يكفوا فوراً عن الاستمرار في منهج استخدام مؤسسات العدالة في الانتقام السياسي والتشفي والانتقام، فليس بينهم من يبلغ شذع نعل يوسف.
– وفي رحيل يوسف رسالة للذين يقومون على مؤسسات العدالة والقضاء، ألا يستجيبوا لإغراءات أو ضغوط السلطان الفاسق عن جادة العدل، فغداً يذهب عنه رداء السلطة ويخرج الذين ظلمهم، فيملأوا الدنيا حضوراً وشموخاً، بينما هو ذليل مخذول، فلا أظن أن القاضي الذي كان يتفنن ويتفانى في الاستجابة لأوامر تجديد حبس يوسف، يستطيع أن يزور قبره الآن وهو متمالك متماسك، ولا أظن أن ضباط الأمن الذين استجابوا لأوامر السلطان بتجاوز القضاء وتجديد اعتقاله يجرأون على الوقوف عند رأسه الآن، ولا أظن أبواب السماء تقبل شهادتهم عنه أو فيه.
– ما أحوجنا وقد رحل يوسف إلى استثمار رصيده الهائل من التسامح وقوة الشكيمة ومضاء العزيمة في الإصلاح السياسي الذي يمنع تكرار تجربة ظلمه المتطاول، فقد استثمر يوسف في هذا الرصيد سنوات غالية جداً لم يصحب خلالها ابنته سارة وابنه محمد وهما ينتقلان من مرحلة دراسية إلىمرحلةأخرى، ولم يقابل معلميهما ليشكرهم على ما يبذلونه من مجهودات في تعليمهما، ولا تمكن من شراء الهدايا لهما وهما يحرزان النجاح. استثمر يوسف لحظات الفرح بتفاصيل حياته الخاصة في سبيل أن يصنع لنا فرحاً في حياتنا العامة ونحن مدينون له ولأبنائه بالوفاء والمُحافظة على استثماراته وتطويرها
التعليقات مغلقة.