الأبواب المغلقة مشكلات السودان و رفاق الثورة و النضال بقلم / محمد علي محمد

 

من المشكلات الموجودة في السودان بعد ثورة الشعب المجيدة ، المشكلة السياسية ، و هي أظهر المشكلات ، و بالغة اذ انها ليست مجرد مشكلة ، بل معضلة ، بل أزمة شاملة في الفكر السياسي ، أزمة في الممارسة ، و عدم القدرة على تنظيم الحياة السياسية في السودان ، و محاولة ضرب وحدة الشعب السوداني و تمزيقها إلى – قبائل – مشيخات – إمارات – و تنشيط التناقضات العرقية و الجهوية و تعميق المشكلات القبلية .
و ظلت توجه الممارسة السياسية بعد الثورة و التغيير من خلال المصالح ، مما نتج عنه الأخلاقيات السياسية المنحرفة – الكذب – تزوير إرادة الشعب السوداني .
و بهذا يكون السودان و شعبها دخل بعدا اخر اكثر تعقيدا بطول الإرتهان للنموذج السياسي السيء – بعض ابناء السودان أحسنت بعض الدول تربيتهم على يدها لتنشر بهم فكرها المشوه و منهجها الأعوج ، جهلت تماما تنظيم الحياة السياسية بعد التغيير ، و هم الأن يقودون السودان بدون وعي و فهم رشيد .. و حتما ستنتهي بفشل سياسي شامل سيحط بالسودان إلى درك الأستبداد السياسي و الفساد و ضعف الحكومات و التبعية السياسية و فقدان السيادة .
فنحن نعاني أزمة شاملة كما أوضحت ، أزمة في الفكر ، أزمة في الممارسة السياسية ، بل امامنا تحد في المجال السياسي ، هذه مشكلة واقعية عجز الفكر السياسي الوافد و بعض قيادات الأحزاب عن حلها ، و بذلك تقع على عاتق رقاب قيادات ( الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عقار) و لا يفيد تصورها ،التشخيصي الجزئي الذي ينظر الى الظواهر و المشكلات مجزأة ..مقطوعة عن علائقها و أبعادها الأخرى المرتبطة بها .. بل تحتاج إلى رؤية كلية تحيط بتعقيداتها المختلفة ، و لأن هنالك أمر دبر بذكاء و مكر يستهدف وحدة المجتمعات السودانية ، و أن هذا الأمر ليس قضية مفردة هنا او هناك و انما هو مجموعة من القنابل الموقوتة ، ضبطت لتعيق عملية التغيير .
اذن السودان يعاني من أشكال كامل كما ذكرت في المسألة السياسية ، على مستوى عالم الأفكار ، من حيث الإختيار الفكري الذي يحرك الطاقات ، الخيار الفكري الذي يوافق فطرة المجتمعات السودانية و تحرك قواه ، فلا يبقى المجتمع معزولا عن الحركة السياسية زاهدا لا يرى معنى للمشاركة فيها ، بل يتبناه و ينهض بمهام بنائه و تأسيسه ، و لا يتم ذلك دون ان يكون هذا الإختيار الفكري السياسي مستوعبا لجميع مكونات المجتمع السوداني ، بمختلف تقاليده و ثقافاته و لونياته كلها ، حتى لا تبقى مجموعة اجتماعية غير مستوعبة ، فتشكل قوة سالبة على من يريد مصلحة السودان ، و من خلال هذا الإختيار الفكري السياسي ، تواجه ( الحركة الشعبية لتحرير السودان ) بقيادة الرفيق عقار ، مشكلات تنظيم الحياة السياسية ، و معالجة مشكلاتها المتعددة و اخراج النموذج السياسي المتواضع من المشهد .
فإن محركات النشاط السياسي الرشيد لابد ان تأتي مرتكزة على ( رؤية السودان الجديد) و منبثقه عنه ، يعني لابد ان تأتي أصيلة و أصولية تشكل انعتاقا كاملا و تحررا عن الفكر الوافد .. ثم تؤسس تفصيلات الفكر السياسي و الممارسة السياسية ، و تعبأ عليها المحتمعات السودانية بإعتبارها تنظيما يتبنى فكر و رؤية سودانية سودانية .
هذه هي جملة الإشكالية التي تنتظر ( الحركة الشعبية لتحرير السودان ) و تحتاج إلى الجدية في التعامل معها حتى نتجاوزها الى النهضة الإقتصادية .
و لم تسلم البنيات الإجتماعية ايضا في السودان ، و ذلك بالتأثير لنمط الحياة الوافدة ، التي تعمد الأعداء إفسادها و إغراقها في الإنحلال الاخلاقي حتى تسهل قيادتها ، و من ثم الحروب المختلفة على المستوى الداخلي ( القبلي) في كل منطقة مشكلات جديدة عن الهجرة و النزوح و التشرد ، و كلها ولدت مشكلات اجتماعية عدلت قيم تلك المجتمعات و ادخلت عليها الفساد الأخلاقي ، بدوافع الحاجة ، و فقدان الرباط الإجتماعي ، و الإنتقال إلى اوساط جديدة و التأثر بقيمها السالبة .
كما ان الأوضاع الإقتصادية بالسودان كان لها تأثيرها الإجتماعي السالب في كل الإتجاهات ، فبعض البلدان بفعل التخلف الإقتصادي و الفقر و الحاجة ، تفككت اجتماعيا و أهتز فيها سلم القيم الجميلة و الإوضاع السياسية كل ذلك بما اكتنفها من إستبداد و ظلم و دكتاتورية مطلقة و سيطرة للطائفة و العوائل و الأسر – افرزت مشكلات اجتماعية اورثت بعض المجتمعات – الخنوع – الضعف – الإنكسار – و الفسق و الفساد .
و بالرغم من قناعتي – و هذا أمر ظاهر و بديهي – في أن حياة المجتمع السوداني ، فيها كثير جدا من العافية قياسا بمجتمعات دول اخرى ، التي تردت و أنحلت و سقطت إلى درك سحيق .. الا ان المشاكل الإجتماعية و التخلف الاجتماعي ، نتاج لضعف المؤسسة التربوية و التعليمية ، و قصور إنتشارها ولد مشكلة إجتماعية عميقة و هي المسئولة عن ظاهرة التخلف البادية على الدولة و المجتمع ، التخلف في طريقة معاشها و كسبها ، و اسلوب سكنها و تنظيمها و تردي الخدمات المختلفة و تخلف الحياة المدنية بصفة عامة ، و التخلف المجتمعي أحد المعوقات الأساسية التي لا تقوم لنا رؤية واضحة قبل ان نتجاوزه و نرتقي بالإنسان و نطور حياته و ممارساته الإجتماعية و لا يخفى ذلك فأن الإنسان هو المسئول عن تطوره !! كذلك فأن من بوادر الأشكال الأساسية في مجتمعاتنا ، إهتزاز الروابط الإجتماعية و فقدان السودان و شعبها أدوات التماسك في الأسرة و المجتمع ، و هي ظواهر بلغت مداها في دول مجاورة لا نريد لها ان تنتقل إلينا .
إن الخراب الأخلاقي الذي أصاب الحياة في بعض الدول ، جعلت مجتمعاتها تكفر بقيمها و فقدت بذلك الضوابط الإجتماعية التي توجه لكبح جماح الشهوات و الغرائز الحيوانية .
و من الأمراض الوافدة إلينا و تشكل تحديا ، فهناك بوادر تحلل اخلاقي في المجتمع و إنتشار عدم الجدية وسط الشباب .
و هناك بعض الأمراض الإجتماعية الأخرى تفشت وسط الشباب – كالبطالة و التبطل – الكسل و التسكع في الطرقات ، و ظواهر التقليد لمظاهر سلوكية مختلفة وافدة في الملبس و المظهر ، و استعمال المخدرات الى غير ذلك من مظاهر الإنحراف السلوكي الفردي و الجماعي ، هذه هي ابعاد التحدي الإجتماعي .
و هناك مشكلة إصابة عقل الإنسان السوداني و بسببها نتج ( إختفاء النخب المبدعة) فالمجتمعات الحية النشطة تفرز حركتها دائما قلة مبدعة ، و تقفز بمجتمعاتها قفزات واسعة في توجيه الحياة و إعمارها . فقدان السودان لهذه القلة المبدعة ، كنتاج طبيعي لحالة الجمود و الإسترخاء العقلي التي عاشها السودان .
و كانت المشكلة في بعدها النهائي تجلت في تأخر الإبداع و الإبتكار و تخلفت الدولة السودانية في كافة نواحيها .. و تقدمت المجتمعات حولها تقنيا و فكريا ، فأصبحت منطقة ضعف يغزوها الأعداء .
و هكذا أصبح أنسان السودان تفوت عليه خطط الأعداء و مشاريعهم دون ان يعي ، و تمارس على على شعبها اكبر عملية إستغفال في التاريخ ، فيسرقون ثرواتها و مواردها .
و تأتي أخيرا المشكلة الثقافية بعد تراكم كل تلك الأبعاد للمشكلة العقلية و تأثيرها على فكر الإنسان السوداني ، تصبح المشكلة هي أزمة عقل ، و المشكلة العقلية في هذا البعد تتحول إلى مشكلة (ثقافية) و هي أعمق ابعاد الأشكال ، و أغور أثار الهزيمة التي تستوجب عملا كبيرا لحفرها من جذورها و إجتثاثها.
و المشكلة الثقافية تكتسب كل الأهمية ، لأن ثقافة اي ( شعب او أمة) تعني شخصيتها الملكية ، تعني طريقة التفكير و السلوك و اسلوب الحياة و المعتقد و قدرتها ، و إستعدادها و أرثها التاريخي ، و تفاعلها مع الأخرين و دخول شعب او امة ما في أزمة ثقافية ، هذا يعني ضياع شخصيتها و ذوبانها في شخصية أخرى .
و خلاصة ذلك أن الثقافة شأن خاص لكل مجتمع على عكس العلم الذي هو حقائق محضة لا تتغير من موقع لاخر ، و ثقافة المجتمع المعين ، هي خميرة النهضة و الصعود ، فإن كانت هذه الخميرة ضعيفة في تكوينها خاملة و سلبية شكلت ( خميرة تخلف) اقعدته عن النهضة ، و تأثرت بالخمائر الأخرى القوية و ذابت فيها ، اما ان كانت هذه الخميرة قوية في تكوينها و تختزن قدرا من الطاقة و الحيوية ، شكلت ( ثقافة النهضة) و هيأت ذلك المجتمع المعين للنهضة و الصعود ، و تقاس الثقافات دائما في إتجاهين ، تقاس من خلال قدرتها على الجدل مع مشكلاتها الواقعية و حلها ، و من خلال قدرتها على الثبات في التواصل مع الثقافات الأخرى و الإستفادة منها دون أن تذوب فيها .
هذه هي المشكلة الثقافية ، و هي كما ذكرت أغور أبعاد الأشكال المعيقة لنهضة السودان و شعبها الطيب .
و هي أزمة شاملة ناتجة عن أزمة العقل ، و تحتاج إلى تعديل حتى يبدأ العقل السوداني في العطاء ، و ينبض الوجدان السوداني فيضئ العقل و يحرك جميع القوى المدركة عند المجتمعات السودانية .
فلابد أن اوضح نقطة مهمة تتعلق بترتيب النظر لهذه المشكلات و لحلولها ، و ذلك ان المشكلات – الإقتصادية – السياسية – الإجتماعية- جميعها مشكلات و علل مجتمعية ( أخف من المشكلة الثقافية) و ذلك أن الأشكال الثقافي يعني (إنمساخ) شخصية المجتمع المعين و تلاشيها و ذوبانها في ثقافة و شخصية مجتمع أخر ، فيفقد بذلك كل مميزاته الذاتية و لا يكسب أصالة و قيم المجتمع الجديد ، فيصبح (مسخا) و المجتمع عندما يهزم و يدخل مرحلة الأزمة الثقافية تستفحل بسرعة بقية مشكلاته الأخرى ( اقتصادية – سياسية – اجتماعية ) لذلك دائما تبدا اعادة المجتمع السوداني الى ثقافته ، و التحرر من التبعية الثقافية ، فهي اخر مراحل المشكلة و اول خطوات العلاج ، لابد ان تكون هناك استعدادات نفسية و روحية و آمال و نيات صالحة و دوافع خيرة .
اذآ هذا يعني نحن وجدنا خميرة التغيير الثقافي ، و هذه الخميرة تكون فاعلة و حيوية بقدر قوة عمق التغيير الذي يحدث في اتجاه هذه الخطوط … و لا يحدث التغيير الا عندما تتفاعل هذه المكونات الجديدة لشخصية الإنسان السوداني ، مع مشكلات الواقع و تحدياته المختلفة و لا يكفي مجرد التفاعل ، بل لابد من ايجاد حلول لهذه المشكلات ، ناتج من هذه الحلول في نواحي الحياة المختلفة سياسية و تعليمية و اجتماعية و اقتصادية و فنية و ادبية .
فحركة الإحياء الثقافي ليست فقط ندوات ادبية تنعقد او خطب وعظية تعبأ بها الناس ، او كتابة مقالات في وسائل الإعلام المختلفة رغم انها تتضمن ذلك .
و لكن حركة الأحياء الثقافي هي خطة بأهداف مرسومة تنتهي الى حلول و نتائج تظهر على شكل نمط حياة متكاملة تتشكل في ضوء المعطيات الجديدة ، و يتبدى في مظاهر حياة الناس السلوكية و عاداتهم و تقاليدهم و تتجاوز سلبيات الماضي المعيقة للنهضة و توجد اتجاهات جديدة بناءة في المجتمع . و ان تثمر هذه الحلول المختلفة … انتاجا ادبيا و فنيا و تطورا اجتماعيا و رفاهية و بسطة في المعاش ، و إستعداد و امنا في مظاهر الحياة جميعها .
و هذه المحصلات هي بالفعل ما تحتاجه كعائد من حركة التغيير الثقافي ننشده في نظامنا الحياتي في السودان و الذي أشرنا إليه في الأسطر السابقة من خلال عرض ( المشكلة الإقتصادية – السياسية – الإجتماعية) نمط معيق و مثقل بالعادات و التقاليد السالبة … أظهرها إضاعة الوقت ، و العشوائية في التخطيط و تبديد الموارد و إضاعتها او تعطيلها ، قلة العمل و العجز و الكسل الى اخر هذه القائمة المعروفة و التي تحتاج إلى تعديل نحو الموجب و البناء .
و تنظيمنا الحياتي في السودان مشلول و غير فاعل ، إذ تغيب فيه المؤسسات ذات البناء الإداري و الفني القوي فأغلب مؤسساتها الرسمية و التطوعية بمختلف تخصصاتها عاجزة و متخلفة ، و تفتقد القدرة على الصمود الذي يستعجل النتائج ، بل يتأتى في رعاية الخطط و البرامج و إصلاحها حتى تستوي على سوقها ، بل يغلب على تخطيطنا عدم الإستقرار و التعجل إلى إلغاء الخطط و العدول عنها دون مراجعة علمية ، و هذه نقاط جديرة بالإهتمام و الدراسة المتأنية و التقويم الدقيق لمؤسساتنا الرسمية في السودان التابعة للدولة والأخرى التطوعية لتأسس على مرتكزات قوية و متينة.
حتى لا يظن العالم من حولنا ، ان شعب و شباب السودان ، ماتت قلوبهم ، و تحنطت عقولهم ، و أصبحوا كالمومياء لا يختلفون عنه الا من حيث القدرة على النطق و ترديد الشعارات البالية الجوفاء .

التعليقات مغلقة.