عبد الله مكي، يكتب: الشريعة والسياسة في السودان -1

الخرطوم:ماسة نيوز

ما أن يهل شهر (سبتمبر) حتى يتجدد الجدل حول موضوع الشريعة والسياسة في السودان، فنحن نعيش الذكرى (37 لقوانين سبتمبر) كما اشتهرت في الأوساط السياسية والإعلامية، وهي تُنسب لقوانين الشريعة التي أصدرها الرئيس الراحل نميري.

ولكن هل بدأت الشريعة الإسلامية بنميري؟ أم هي قضية ضاربة الجذور في تاريخ السودان؟ وما هو تطور تطبيق الشريعة في الدولة السودانية؟ وما هي القصة الكاملة لقوانين سبتمبر؟ وما هو مستقبل الشريعة في السودان؟

الشريعة عبر تاريخ السودان

بعد اضمحلال الممالك المسيحية وانتشار المد الإسلامي قامت ممالك وسلطنات إسلامية:( السلطنة الزرقاء أو مملكة الفونج، وسلطنة الفور، ومملكة تقلي في جبال النوبة، ومملكة المسبعات، ومملكة الداجو ومملكة البجا). أقامت هذه الممالك نظمها على أساس الشريعة الإسلامية، ولكن قلة معرفة القبائل بها أدّى لاختلاط أحكام الشريعة بأعراف تلك القبائل وعاداتها.

العهد التركي
بعد غزو محمد على باشا للسودان، كان القانون المطبق مزيجا من الشريعة الإسلامية والقانون المصري وقواعد العرف المعمول بها آنذاك. وأُنشئت المحاكم الشرعية التي كانت تُطبق المذهب الحنفي، وكان لتلك المحاكم اختصاص النظر في كل القضايا في بادئ الأمر، ثم أُوكلت القضايا الجنائية إلى مديري المديريات، وأُنشأت المجالس المحلية التي اختصت بالقضايا الجنائية والمدنية، وفى آخر ذلك العهد قصر اختصاص المحاكم الشرعية على الأحوال الشخصية.

الثورة المهدية
أما المهدية فالقانون المطبق هو الشريعة الإسلامية مستمدة من الكتاب والسنة كما هي مفسرة في منشورات الإمام المهدي، والتي تتضمن آراءه الاجتهادية المبنية على الإلهام دون مراعاة لمذاهب الفقهاء وآرائهم، فبرز(صراع المهدي والعلماء)كما كتب عبد الله على إبراهيم.

الاستعمار والشريعة
الاستعمار الانجليزي للسودان جاء على أنقاض الثورة المهدية ذات التوجه الاسلامي، لذا جاء بخطة واضحة(للشمال المسلم) و(الجنوب غير المسلم).
بالنسبة للجنوب تم تنفيذ (قانون المناطق المقفولة) فعمل الانجليز على “قطع الصلات الثقافية بين طرفي البلد ومحو الاسلام واللغة العربية” كما يُفصل ذلك بروفيسور مدثر عبد الرحيم في كتابه (مشكلة جنوب السودان وأثر السياسة البريطانية في تكوينها) ومُنع مواطنو الجنوب من اتخاذ الأزياء والأسماء الاسلامية والعربية وحُملوا إدارياً على اتخاذ الأسماء والملابس الأوروبية”، وتم فرض اللغة الانجليزية كلغة للإدارة والتعليم بدلاً عن العربية. ومعاقبة أي مواطن جنوبي يُخالف هذه القرارات.
وأما الشمال فتم فرض القوانين غير الإسلامية، تقول كارولاين فلوهر لوبان في كتابها (الشريعة والمشروع الحضاري في السودان) :”عقب الفترة الأولى من احتواء قانون المسلمين وهيئته الشرعية ووضعهم تحت الاستعمار، تجدد خوف من نهوض حركة إسلامية جامعة تصير عوداً لعهد المهدية”.
وتُؤكد لوبان: “أن الانجليز أدخلوا قانون انجليزي مدني وقانون جديد للعقوبات (مشتق من القانون الهندي) ليحلا محل الشرع الاسلامي في كل الشؤون عدا شؤون الأسرة والأحوال الشخصية للمسلمين”.
والسودان طوال تاريخه كان يُحكم بالشريعة، وجاء الانجليز وأوقفوا ذلك بعد أن”قرر الانجليز أنه لا الشريعة الإسلامية ولا القانون المصري، ولا القانون الانجليزي العام، بصالحة في كلياتها لاستنباط قانون مدني سوداني) كما أوضح ذلك عبد الله علي إبراهيم في كتابه القيم (الشريعة والحداثة) والذي خصص مباحثه الأولى للإجابة عن سؤال أثاره الدكتور زكي مصطفى في كتابه (القانون السوداني) عام 1971 وهو: “لماذا لم يستفد القضاة الانجليز وخلفُهم من السودانيين من الشريعة الإسلامية في إنشاء قوانين السودان؟”

عشية الاستقلال
دستور1956 المؤقت في جوهره وغالب نصوصه وضعه الخبير الدستوري البريطاني القاضي (استانلي بيكر) وكونت لجنة أجرت ثلاثة تعديلات، بالإضافة لتعديل شكلي وهو استبدال الحاكم العام بمجلس السيادة، والتعديلات الثلاثة واحد متعلق بالفدرالية في الجنوب، والثاني بالمحاماة، والثالث بالأراضي، يقول منصور خالد في كتابه (حوار مع الصفوة): “إذن فقد رأت أحزاب السودان يومها أن دستور استانلي بيكر هو أصلح دستور لحكم السودان المستقل، وهو دستور غربي.. غربي في هيكله، وفي مفاهيمه، وفي معطياته الأساسية”.

الدستور الإسلامي والاستقلال
الدستور الإسلامي هو الإستقلال الحقيقي، بل هو الذي ألهم الحركات الإسلامية برنامجها السياسي ورؤاها الفكرية. ويُفسر هذا (عودة الخطاب الإسلامي) و(الإسلام السياسي) و (الدولة الإسلامية) و (الشريعة الإسلامية). يقول فرنسوا بورغا في كتابه (فهم الإسلام السياسي): “اقترحت في المحصلة أن ننظر إلى الخصيصة الداخلية المنشأ للمصطلح الإسلامي كمصدر لفضائله التعبوية لا أن نقتصر على بعده المقدس فحسب، وأن قوة هذه المصطلحات الأساسية الجذابة تقوم في نظر من يتبناه على ارتباطه الوثيق بـ(ثقافته الموروثة) أكثر من المصطلحات السياسية الأخرى المرتبطة بالاستعمار”. ويرى بورغا: “أن دينامية استعادة المصطلح الإسلامي، هي امتداد للدينامية الاستقلالوية.”

الجبهة الإسلامية للدستور
منذ مؤتمرها الأول في أغسطس 1954 قررت الحركة الإسلامية الاهتمام بقضية الدستور الإسلامي وتكوين (الجبهة الإسلامية للدستور) وحشدت السلفية والصوفية والعلماء وقادة المجتمع وقاضي قضاة السودان، واتصلت بالسيد عبد الرحمن وعلي الميرغني والأزهري والمحجوب، وحصلت منهم على تعهدات بمناصرة الدستور الإسلامي، كما ذكر سليمان صديق في كتابه (الخطاب الإسلامي وعلاقة الدين بالسياسة والحياة العامة).
وعن تأثير الجبهة الإسلامية للدستور يقول الطيب زين العابدين في ورقة بعنوان (التيار العلماني وأثره في السودان): “وأدت الجبهة الإسلامية دوراً هاماً في إثارة قضية الدستور الإسلامي بصفتها تحديداً لقبلة الأمة السياسية: هل تظل في إسار العلمانية الغربية أم تكسر عنها القيد لتتجه نحو تكوين المجتمع الإسلامي”.

بعد أكتوبر
تكونت جبهة الميثاق الإسلامي وشاركت في الشأن العام مع أحزاب أخرى في حملة سياسية منظمة نحو الإصلاح الإسلامي وبادرت – من خلال البرلمان – لتكوين لجنة برئاسة القاضي خلف الله الرشيد (لمراجعة القوانين لتتماشى مع التقاليد السودانية) حسب ما نص ميثاق الثورة، ولجنة أخرى قومية وضعت مسودة لدستور إسلامي عام1968، ساهمت فيها الأحزاب الاتحادية وحزب الأمة. ونص في مادته (رقم 113) على:”الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة”. ولكن انقلاب (مايو1969) قطع الطريق على إكمال العمل بهذا الدستور.

في عهد (مايو)
وظهر موضوع الشريعة مرة أخرى في الدستور الدائم لسنة1973 ونصّ على: “الشريعة الإسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمهما القانون الخاص بهم”.
ولكن صدرت عام1974ثلاثة قوانين: قانون العقود وقانون البيع وقانون الوكالة مستمدة من القانون الإنجليزي دون أدنى اعتبار للشريعة الإسلامية أو للعرف كما يوجب الدستور.
وفي23\5\1977صدر قرار بتشكيل لجنة لمراجعة القوانين السارية في البلاد وإعادة النظر فيها حتى تتناسب مع تعاليم الإسلام برئاسة رئيس القضاء (خلف الله الرشيد) ولجنة فنية برئاسة النائب العام وتقوم اللجنة: “بإعداد الدراسات المستمدة من قواعد الشريعة وآراء الفقهاء حول تنظيم المعاملات بين الأفراد والمؤسسات وغيرها وما يتناول منها الحقوق والواجبات وقواعد الإثبات في جميع فروع القانون”.

مراحل تحكيم الشريعة
بعد الاستقلال يُمكن تقسيم مراحل تحكيم الشريعة لثلاث مراحل:

أولاً : مرحلة الدعوة والمطالبة
وقاد هذه المرحلة العلماء والدعاة وطالبوا الساسة بالالتزام بتطبيق الشريعة، وإصدار دستور إسلامي وجعل الشريعة المصدر الرئيس للتشريع. وشكل هؤلاء العلماء “الجبهة الإسلامية للدستور”، وجمعت هذه الهيئة الأحزاب السياسية والطوائف الدينية، وأثمرت الحملات التوعوية وعياً شعبياً كبيراً، مما جعل الساسة آنذاك يدرجون تحكيم الشريعة في برامجهم الانتخابية، وحصلت جبهة الدستور الإسلامي على وعد من قادة الحزبين الكبيرين “الأمة والاتحادي” بمناصرة الدستور الإسلامي. وشاركت المرأة في هذه المطالبة ومثلتها سعاد الفاتح البدوي، وفاطمة طالب وثريا أمبابي.

ثانياً : مرحلة الصياغة والتشريع
وبدأت في أكتوبر1964م، وتم تضمين ميثاق الثورة الشعبية آنذاك نصاً يطالب بـــ”وضع قوانين تتماشي مع تقاليدنا”، وعلى إثر ذلك كُونت لجنة لمراجعة القوانين، ولجنة قومية للدستور. وجاء مشروع دستور1968م ونصّ على أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة. كذلك نص دستور1973على أنّ “الشريعة والعرف مصدران رئيسان للتشريع والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم”.

ثالثاً : مرحلة التطبيق والتنفيذ
وبدأت في عهد نميري في سبتمبر1983م، بإعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية، وتم تسميتها سياسياً بـ(قوانين سبتمبر).
ونواصل…

التعليقات مغلقة.