سرديَّات وتراجيديا الحروب

بقلم/ البخيت النعيم عمر

  • مقدمة

في المخيِّلة الثقافية السودانية، نحو جبهة ثقافية إستراتيجية، دخل وطننا السودان، في حرب شعواء عبثية ، بلا رؤية في العاصمة السودانية الخرطوم في رمضان يوم 15 أبريل 2023 م، فجرها جنرالان وراءهما طرف ثالث فوضوي ظلامي ، يريد إعادة إنتاج سلطته الزائفة ، التي أسقطها شعبنا في ثورة ديسمبر المجيدة 2018م حتى انتصرت في أبريل 2019م.

تمدَّدت حرب الخرطوم إلى أغلبية ولايات السودان، وكان ضحاياها حتى الآن أكثر من (12) ألف شهيد وشهيدة من المدنيين، رجالاً ونساءً وشباباً وأطفالاً، كما نزح أكثر من (٩) مليون نسمة من العاصمة الخرطوم وأمدرمان وبحري ونيالا والجنينة وزالنجي وود مدني والأبيض وبابنوسة وغيرها، كما لجأ أكثر من مليون ونصف المليون لآجئ، طالبين حق اللجوء في دول الجوار مثل مصر وجنوب السودان وأثيوبيا وإرتريا وتشاد ويوغندا وكينيا، وفي دول الخليج ودول العالم.

وكل هؤلاء قد فروا قسراً طالبين طوق النجاة. كما شردوا وجمدوا تعليمهم (١٩) مليون، طالب وطالبة، منهم ثلاثة مليون نازح.

استخدم طرفا النزاع (القوات المسلحة والدعم السريع) في هذه الحرب، أخطر أنواع الأسلحة المحرَّمة دولياً، فقصفوا أحياء المدنيين بالقنابل والرصاص الحي وقصف الطائرات، وأستباحوا وسرقوا وهدموا المنازل والمدارس والمؤسسات فوق رؤوس ساكنيها وعامليها، وأستباحوا الأسواق والمصارف والمسارح والفنادق والجامعات والكليات والمعاهد ومراكز البحث العلمي والمكتبات ودور النشر والإرشيف الوطني والمتاحف.

فقد الآلاف فلذات أكبادهم وأمهاتهم وآبائهم، في هذه الحرب المروعة والفوضوية، حيث يبحث الذين فجروها إعادة إنتاج سلطتهم الزائفة على جماجم أبناء وبنات شعبنا، حقا إنها حرب مصنوعة إستهدفت مشاريع ثورة ديسمبر المجيدة النهضوية ، هي ذات القوى الشريرة التي قامت بمذبحة ومجزرة فض الإعتصام في القيادة العامة ، 2019م ، لكن رغم تراجيديا الحروب وسردياتها المؤلمة، سوف يظل شعبنا متمسكاً بمشاريع ثورته النهضوية ووحدته الوطنية والمحافظة على حضارته وثقافته الحافلة في التاريخ القديم والحديث (الشعب أقوى والردة مستحيلة) .

  • سرديَّات الحرب في المخيِّلة الثقافيةالانسانية

ما يهمني في هذا التوثيق ، هو سرديات الحروب في الحقل الثقافي ، لأنها هي التي تبقى كتوثيق معرفي للأوطان وللإنسانية، علينا أن نهتم بما قدمه المفكرون والعلماء ومحترفو الفنون والآداب والتشكيليون والفنانون والفنانات والموسيقيون والمسرحيون والسينمائيون والروائيون والشعراء وغيرهم من المبدعين، ومعروف أن ميلاد العمل الإبداعي يخضع لميكانيزمات من فضاءات مختلفة من حيث البعد الزمكاني من جماليات وتراجيديا، فالمبدع يوثِّق عبر بصيرة وبصر خلَّاق.

هنالك حروب كثيرة وتاريخية في السودان والدول العربية والأفريقية وحروب عالمية، وثَّق لها مفكرون وكتاب وأدباء كبار، كما هنالك كتاب وإعلاميون دوَّنوا تراجيديا الحروب وأبدعوا بعد أن تضع الحرب أوزارها.

كتب الشاعر الكبير توماس ستيرنز اليوت قصيدة الأرض الخراب (the waste land) والتي نعى فيها الحضارة الغربية عبر حربيها العالميتين، كما وثق الفنان القدير بابلو بيكاسو عبر لوحته الشهيرة (غرونيكا) عكس فيها الإبادة الجماعية التي تمت لساكني مدينة غرونيكا في إقليم الباسك بأسبانيا حيث قصفت بالطيران في 26 أبريل 1937م حيث قام بالمذبحة الدكتاتور الإسباني فرانكو، هكذا ظلت جدارية غرونيكا من أشهر لوحات العصر الحديث ، هكذا مرت السنوات وبقيت مؤلفات المفكر الفيلسوف فكتور هيجو تتداولها الأجيال.

عن الحرب يقول الشاعر زهير ابن أبي سلمى:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم **** وماهو عنها بالحديث المرجَّم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة **** وتضر إذا ضرَّيتموها فتضرم

ويقول الشاعر إدريس محمد جماع في ديوانه لحظات باقية :

والخائضين الحرب  ***** من أجل المطامع والدماء

ليس الخراب بطولة ***** إن البطولة في البناء

قال أحد الفلاسفة : “الحرب محيط بلا قناع يبتلع كل شيء بلا تمييز”.

في مقاله نمنمات في الحرب والأخلاق يقول البروفيسور أبوالقاسم قور : “الحرب هي الشيء الوحيد ضد كل الأشياء”، وقال :”الحرب السودانية أذت المشاعر وأخلاقيات المجتمع السوداني وأظهرت ما كان يخفيه السودانيون من سلبيات”!!!.

  • نماذج حروب عربية وثَّق لها شعراء وأدباء ومبدعون كبار

في المنطقة العربية هنالك حروب وثَّق لها مفكرون وكتاب وأدباء وشعراء وتشكيليون وإعلاميون وفنانون وفنانات.

 ففي حرب القضية الفلسطينية مع العدو الصهيوني المحتل ، حيث كتبت عن الحرب الشاعرة فدوى طوقان والشاعر سميح القاسم ووزير الثقافة الفلسطيني الشاعر إيهاب ياسر بسيسو، ومن أشهر كتبه (حكايات للغائبين)، ومن الإعلاميين الشهيدة شيرين أبوعاقلة، ومن المصورين معتز عزايزة الذى غطى حرب غزة، بالصورة الفوتوغرافية، الصورة توثيق بصري مهم حيث أصبحت جزءاً من المشروع النضالي توثق للبعد الثقافي والسياسي والحربي.

 الصورة عكست لنا صور المخيمات والشوارع والأسواق واقع فلسطين بعد غزو غزة، الصورة هي حقاً إرشيف وذاكرة نضالية تعكس قسوة الحروب. ومن التشكيليين فنان الكاركتير الشهير ناجي العلي والتشكيلي سلمان النواتي الذي قام بأعمال رائعة وتقديم مفاهيم معاصرة حول الفن في زمن الحرب وكيفية التعاطي الثقافي عن الحرب وآثارها السلبية حيث ظل يعكف الفنان سلمان النواتي على مشروع ثقافي بإقامة متحف افتراضي لأرشفة التاريخ الثقافي الفلسطيني.

كما قدَّمت الفنانة السورية التشكيلة سارة شمة معارض في بريطانيا، فلها معرض بعنوان (أرواح جريئة) و(لوحات على فراش الموت) حيث تركز في أعمالها على مواضيع الهوية والموت كمحرِّك للإبداع وتخليداً للحياة بعد الموت وخلود المبدعين.

ومن المبدعين والمبدعات والفنانات اللآئى وثقن للحرب والثورة وقدمن عملاً تاريخياً في ثمانينيات القرن الماضي أغنية (ووين الملايين) لاستنهاض الشعب العربي وهنَّ جوليا بطرس وأمل عرفة وسوسن الحمامي.

كما كتب أدباء ومفكرون وفنانون وتشكيليون وشعراء كبار عن الحرب العراقية ضد إيران وغيرها من الحروب.وثق للحرب الشاعر عبدالوهاب البياتي وبدر السياب وجبرا إبراهيم جبرا وسعدي يوسف والشاعر محمد مفتاح الفيتوري وسيف الدين الدسوقي ونزار قباني، ومن شعراء العراق الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد الذي كتب أعظم القصائد

(صبر العراق صبورا أنت ياجمل) وقصيدة (الشهيد) وقصيدة (النذور) وكتب عن موكب الحياة والموت مثلما كتب قصيدته المشهورة (الزائر الأخير) وهو الموت.

  • من دون ميعاد
  • من دون تقلق أبنائي
  • أطرق الباب
  • خذ من يدي الكتاب

وكتب ( ياعراق هنيئاً لمن لايخونك)، كما كتب (مسرحية الحر الرياحي).كما قدمت الفنانة التشكيلية الشهيدة ليلى العطار أعمالاً مبدعة.

  • سرديات حروب السودان

عاش السودان، حروباً كثيرة منذ استقلاله 1956م منها حرب جنوب السودان حتى انفصل وكون دولته المستقلة ٢٠١١م ، وحرب دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق وأبيي وغيرها.

تركت هذه الحروب مآسي وأحزاناً عميقة على شعبنا وصولاً لحرب 15 أبريل ٢٠٢٣م التي فجرها جنرالات في القوات المسلحة وقوات الدعم السريع ، ومن خلف ذلك قوى سياسية ظلامية جماعة التأسلم السياسى، التى  كانت من وراء الحرب بغرض إعادة إنتاج سلطتها التي أسقطها شعبنا في ثورة ديسمبر الشعبية المجيدة ٢٠١٨م .

وثق للحرب كتاب وصحفيون على سبيل المثال لا الحصر، الصحفى عبدالله رزق ووائل محجوب محمد صالح وفيصل محمد صالح وأحمد يونس وأحمد مختار ورشا عوض وأبوبكر عابدين وخالد ضياء الدين، وعلى الدوش ومحمد قور ولؤى محمد سليمان  قور.

ومن الكتاب المفكر أحمد محمود والدكتور أحمد بابكر والدكتور كمال الجزولى والدكتور محمد بريمة ، وشمس الدين أحمد محمد والمهندس عادل خلف الله ومحمد الأمين أبوزيد ومن الأدباء والشعراء مثل الأديب أبكر آدم إسماعيل وإبراهيم إسحاق وأحمد ضحية، والأديب عبدالعزيز بركة ساكن صاحب رواية (الجنقو مسامير الأرض)، والشاعر عالم عباس والشاعر فضيلى جماع وفضل الله محمد  وحماد يونس وبابكر الوسيلة والشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري الذى كتب عن  مقتل البطل السلطان تاج الدين، حيث قال في قصيدته “الحرب الملعونة”:

ياويل الحرب الملعونة

أكلت حتى الشوك المسود

لم تبقي جدارا لم ينهد

ومضى السلطان يقول لنا ولبحر الدين :

هذا زمن الشدة يا أخوان

هذا زمن الأحزان

سيموت كثير منا

وستشهد هذي الوديان

حزناً لم تشهده من قبل

كما هناك فرق غنائية موسيقية كورالية وطنية غنت للسلام، منها فرقة عقد الجلاد وكورال معهد الموسيقة والمسرح وكورال لحن الحياة الذى دشن أعماله فى مركز شباب أمدرمان فى يناير ٢٠٢٣م وسط حشد نوعى وجماهيرى.

في زمن الحرب، دشَّن الأديب الشاعر فضيلي جماع رواية (زغرودة في بيت أبا الناير) عبرت فيها شخصيات معذبة تحلم بوطن يسمو على  العرق واللون ، في مدينة لوذان بسويسرا ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٣م، كما دشَّن سابقاً رواية (هذه الضفاف تعرفني)، كما كتب الأديب فضيلي جماع مقالاً بعنوان (حتى لاتنسى) قال فيه : “مشاهد التجنيد العشوائي والدعوة لإستمرار الحرب ونشر الفوضى في السودان، تعبر عن استمرار المدرسة الكيزانية ،والتى  ترعرعت وحكمت بالبندقية والقتل ونشر الجهل والفقر والفساد في ربوع السودان”.

من أجل وقف الحرب والدعوة للسلام تضامن فنانين كبار على مستوى العالم والوطن العربي مع السودان، حيث قدم أسطورة الجاز الأمريكي الفنان ويتستون ليرسون والموسيقار العراقي المشهور نصير شمة مقطوعة موسيقية بعنوان (سلام السودان).

كما أن هنالك الكثير من الفنانين التشكيليِّين السودانيِّين أبدعوا في رسم لوحات معبِّرة عن مآسي وويلات الحرب، منهم الفنان والموسيقار عبادة جمعة جابر، حيث قدَّم مقطوعات موسيقية ومعرضاً تشكيلياً في القاهرة وثَّق لأهوال الحرب في لوحات معبِّرة وأيضاً قدَّمت التشكيلية وصال ضياء الدين لوحات مبدعة.

كما كتب الشاعر بابكر الوسيلة في حرب ١٥ أبريل “نحو جبهة ثقافية لحياة السودان وتماسكه” قائلا: “ذات صباح أسود انطلقت رصاصة أولى بحرب بين جنرالين لم يريا هذا المكان السوداني إلا كغنيمة سالبة وسط الجثث عبر تاريخ تخلقهما بيد إله الخراب الذميم”.

 وقال : ـ

يا بلادي

يا بلادي

حتى انتفختُ بصمتها في الموت

وانتفخ المدى غرباء..

غرباء من دِمَن اليمين

غرباء من عسر اليسار

غرباء عسكرة الوباء

كما كتب الأديب والشاعر حماد يونس الذي أجبرته الحرب على النزوح قائلاً :ـ

إذا عادت بي الأيام لأمدرمان

سأبني منزلا من قش وراكوبة

وزولة جميلة محبوبة

وحبوبة وقصيدة

بعد ماراحت الخرطوم وأمدرمان

وراحت قيمة الإنسان

عذرا إذا مافارقت عيناك

جمال النيل وشارع النيل

يا أرضاً بقت حصحاص

يا وطنا صبح رصاص

بعد ما كان غناه خليل

يا سفراً سحب ضلك بقيت نازح

بدون عنوان

كما كتبت الفنانة الشهيدة شادن محمد حسين قيثارة التراث السوداني، والتي أستشهدت أثناء الحرب يوم ١٣ مايو ٢٠٢٣م بأمدرمان جراء إستهداف ممنهج حيث قصف الطيران منزلها والمدينة الرمز أمدرمان.

معروف أن الفنانة شادن كانت تحمل محمولاً ثورياً ومن مناصري ثورة ديسمبر المجيدة، حيث كتبت وغنت للثورة والشهداء قصيدة (خيان الحكامة)، ففي مدونتها قبيل إستشهادها كتبت :ـ  

لو متنا حنموت بكرامتنا وأخلاقنا ولن نقابل ربنا ونحن شايلين حق الناس، الموت يحاصرنا من كل الجهات حباب الموت بشرف وأخلاق.

  • نحو جبهة ثقافية إستراتيجية للمحافظة على الموروث الثقافي وأرشفته ووقف الحرب:ـ

ضرورة أن تقوم كل المنصات الثقافية ، بفعاليات ثقافية أن يكون محتواها وهدفها وقف الحرب.

ضرورة أن يكون لنا إرشيف وذاكرة ثقافية متكاملة ، تعبر عن سرديات المشهد الثقافي التاريخي.

يجب توثيق كل سرديات وتراجيديا الحرب من معاناة وتشريد ونزوح ولجوء (كل ضحايا وجرحى الحرب).

الإهتمام بكل وسائل الإعلام البصري والسمعي والمقروء وشبكات التواصل الإلكترونية (الإعلام الرقمي).

الإهتمام بالصورة الفوتوغرافية ، فالصورة توثيق بصرى مهم، حيث أصبحت الصورة جزءاً من المشروع النضالي لأنها توثق للبعد الثقافي والسياسي والجهادي والحرب، الصور هي إرشيف وذاكرة، فهذا عصر الصورة.

تشجيع عمل التوقيعات الجماعية، من أجل وقف الحرب للفئات المبدعة من مفكرين وأدباء وشعراء وموسيقيين وصحفيين وكتاب وفنانيين وغيرهم.

الإهتمام بكليات الفنون والدراما والمسرح والمراكز الثقافية وإتحادات الفنانيين والعمل من أجل عكس خطورة الحروب على مجتمعنا السوداني وعكس ذلك على المنابر الثقافية الوطنية والإقليمية والدولية ، من أجل التفاعل ومناصرة الشعب السوداني لوقف الحرب.

  • ضرورة إقامة المهرجانات والمعارض من أجل وقف الحرب.

ضرورة تشكيل تجمع كبير يضم المبدعين في الآداب والفنون من السودانيين في الداخل والخارج لكي يكون معبراً عن تطلعات شعبنا نحو دولة مدنية ديمقراطية وثقافية، وإرساء دعائم السلام.

إبراز الذاكرة الثقافية للسودانيين بمختلف أشكال الفنون والآداب وتعبيراتها الشعبية ،  والتصدي لمحاولات طمس المنجزات الثقافية والحضارية تحت ركام الحروب.

علينا التصدِّي للتدمير الممنهج والإحراقات المتعمدة ، التي تمت للجامعات والمعاهد العليا والمراكز الثقافية والأندية ومراكز البحوث العلمية والمتاحف والمكتبات العامة والخاصة بالعاصمة والأقاليم.

يجب متابعة وملاحقة واسترداد  ما تمَّ نهبه من إرث ثقافي وعلمي.

يجب تسليط الضوء إعلاميا، على كل ما تمَّ حرقه ونهبه من مواد ثقافية وإرشيف وطني، وهذا يتطلب تكوين فريق من الفاعلين في مجال الرصد والتحليل الثقافي والعلمي والباحثين في الحقل الثقافي والأنثربولوجي.

التعليقات مغلقة.