الفيتوري : القصيدة العربية تجسيد للانهيار العام في مسيرة الأمة
حاوره في القاهرة: ناصر أبو عون - موقع اثير
قبل سنتين وقبيل أيام عديدة من مغادرة الشاعر السفير محمد الفيتوري مكتبه بالسفارة الليبية في القاهرة خروجا من الخدمة الرسمية إلى تقاعد المعاش وانفلاتا من أسر الإتيكيت وقواعد البروتوكول التي تخنق القصائد وتطفيء نار الشوق في الأغنيات وتحيل الموسيقى إلى تقاليد صارمة ومشاعر باردة .. ضرب لي الدكتور مصطفى عبد الغني رئيس القسم الأدبي بالأهرام موعدا مع الشاعر محمد الفيتوري في مقر السفارة الليبية بالقاهرة .. وفي الطريق إلى هناك انفتح باب النقاش بين ثلاثتنا : مصور الأهرام والزميل حسام إلهامي حول جذور الفيتوري ونشأته هل هي سودانية محضة أم ليبية على الرغم من أن قصائده تنزّ دما إفريقيا خالصا ومشاعر وطنية تفجرت منابعها من حروف العروبة المصلوبة على مذبح الوطن تتنازعها رغبات القطرية التي صارت رديفا متشرذما لعروبتنا ؛ على أية حال لم ينته حوارنا إلى شيء ووصلنا مكتب الفيتوري (الشاعر السفير) وعلى مدى 4 ساعات دار حوار طويل ونظرا لاعتبارات الإخراج الصحفي والمساحة المخصصة للنشر لم نتمكن من نشر هذا الحوار بكافة تفاصيله فنشرناه على جزأين في الأهرام واليوم تفتح صحيفة (أثير) صفحاتها لنشر ما لم ينشر .. تقديرا لقامة الفيتوري الشعرية حيث امتدت رحلته الشعرية عبر نصف قرن وعلى كامل مساحة الوطن العربي ممزوجة بدمه المطبوع بثلاث جنسيات عربية رحلة طويلة خلف لنا فيها أكثر من واحد وعشرين مجموعة شعرية وضعته في مصاف كبار الشعراء العالميين وفي عمق العمق للوجدان العربي.
* على الرغم من دوركم الريادي في الحركة الشعرية العربية والذي لايزال يحمل في وعيه عبق التجديد شكلا ومضمونا واستطاع أن يحفر اتجاها إبداعيا في مسار الكلمة الشعرية العالمية يطلق عليه الآن (الفيتورية الإنسانية) إلا إننا نلاحظا إنكارا متعمدا من قبل المؤرخين خاصة وإنك من أقدم كتاب قصيدة التفعيلة كما هو واضح في مجموعتك الشعرية الأولى “أغاني إفريقيا”
هذا السؤال يتبادر إلى ذهني أحيانا ، ولكن أتجاوزه دون أن أفكر فيه باعتباره لايستحق مني إجابة ، فأنا على قناعة تامة أن التاريخ وحده صاحب الإجابة الفاصلة وربما يدفعني تكرار السؤال نفسه إلى إرجاعه إلى كل ما هو متغلغل في أنسجة وشرايين الحركة الثقافية العربية المعاصرة من دوافع شخصية وأشكال “الشللية” والفساد المؤسسي والمصالح الفردية المشتركة.
ولعلك تشاركني الرأي في أن هناك الكثيرين ممن يمتلكون جوقات وطبولا تشيد بمكانتهم المتواضعة ومواهبهم المحدودة ، في حين أن قدراتهم الشعرية أو الفنية لاتؤهلهم لأن يحتلوا المكانة التي يحتلونها بين بسطاء الناس.
أما مسألة ” الريادة ” التي أشرتَ إليها في سؤالك وتجاهلها ،ظ فاعتقد انها تعود زمانيا إلى أقدم من ذلك حيث تكررت بالنسبة لمكانة كبار الشعراء مثل محمود حسن إسماعيل الذي أعتبره انا بمثابة (جوجول الشعر العربي الحديث) فهو في تقديري واضح الأسس والعناصر الفنية للقصيدة العربية الحديثة ، انطلاقا من ديوانه ” أين المفر ؟” ثم ” أغاني الكوخ ” وليس محمود حسن إسماعيل وحده من تعرض للتقليل من مكانته فثمة شاعر عظيم آخر من شعراء المرحلة يتم تجاهله تماما ، لدرجة أنه عندما توفي لم تكد صحافتنا تشير إليه في بضعة سطور في الوقت الذي يثار فيه التهليل والتكبير لنماذج لا تساوي شيئا في الإذاعات والقنوات الفضائية والصحف ، وأعني بذلك الشاعر العظيم ؛ كمال عبد الحليم فربما لا يعرف الكثيرون أنه القائل : (دع سمائي فسمائي محرقة .. دع مياهي فمياهي مغرقة .. واترك الأرض فأرضي صاعقة) .
* لكن ماذا عن ريادة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب لقصيدة التفعيلة العربية ؟
مع احترامي وتقديري لنازك الملائكة كرائدة لشعر التفعيلة في قصيدتها (الكوليرا) وبدر شاكر السياب وبلند وكاظم الحيدري وكثيرين فإن كمال عبد الحليم هو مؤسس ( الواقعية الثورية ) في شعرنا العربي المعاصر ودليلنا على ذلك ديوانه (إصرار) الصادر عام 1947 والذي حوكم من أجله وفي حينها وقف أحد رؤساء وزراء مصر ليطالب بمحاكمته بدعوى الإساءة إلى مصر .
وكثيرون ظلمهم النقد ومؤرخو الحركة الشعرية العربية فعلى مستوى قصيدة النثر فقد تجاهل هؤلاء (الشاعر حسن عفيفي) أول من كتب قصيدة نثر حقيقية في الشعر العربي المعاصر في العشرينيات من القرن العشرين ومازالت دواوينه قابعة في خزانات التراث الدبي المعاصر .. وقاعدة التجاهل المتعمد تنطبق على الكثير من الرواد وخاصة رواد الحركة الشعرية في المهجر .
* هناك ضرورات فرضتها سنة التطور أدت إلى بزوغ قصيدة التفعيلة فما هي الضرورة التي فرضت قصيدة النثر على خريطة الشعرية العربية؟
بالفعل ثمة ضرورة اجتماعية وتاريخية وحضارية وربما نفسية هي التي دفعت شعراء أوائل القرن الفائت إلى البحث عن إيقاع شعري أشد تأثيرا لملامسة الروح وفي الوقت نفسه أقدر من حيث التعبير من الناحية الجمالية عن القيم والتحولات الاجتماعية والإنسانية التي تفرضها الظروف والمستجدات وهكذا ظهرت قصيدة التلفعيلة .
أما فيما يتعلق بقصيدة النثر فاسمح لي بأن أوكد بداية أنني لا أقف أمام أية محاولات جادة لتطوير القصيدة العربية شريطة ان تكون هذه المحاولات إضافة جديدة للشعر وأن تكون نبعا جديدا لهذا التراث يضاعف من رصيدنا ويضيف إليه سواء في الصورة او في الإيقاع وأيضا في الروي والتشكيل الموسيقي فالجوهر الأساسي لي عمل شعري هو الإحساس الجمالي الصادق والقدرة الفائقة على التفاعل والارتفاع إلى مستوى العصر.
* كيف يرى محمد الفيتوري المشهد الشعري العربي الآن؟
هذا سؤال يقتضي بعض التفكير وقد يضطرني إلى الاستفاضة غير انني سأعطيك صورة تقريبية لهذا المشهد في عموميته ، في عناصره المختلفة والمركبة . ذلك أنني أرى المشهد الشعري أو حركة القصيدة العربية مثلها مثل أي عمل شعري أوفني خارج نطاقنا العربي مرتبطة أشد الارتباط بكافة الأوضاع السياسية وكافة التحولات الاجتماعية ، وهو ما ينطبق على الشعرية والفنية بوجه عام وإذا تحدثنا عن القصيدة العربية تحديدا نجدها قد اختلفت اليوم كثيرا عما كانت عليه في السابق ، وهو في تقديري أمر عادي ربما لايفاجيء الكثيرين.. وأقصد بالسابق هنا الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية . فبالرغم من أن القصيدة العربية قد تحتوي على المواصفات الفنية نفسها إلا أن الظروف والانعكاسات الشعرية صارت مختلفة.
* هل ينسحب هذا الحكم على قصيدة النثر؟ وانطلاقا من الواقع الذي نعيشه هل الشاعر بريء؟ وهل الفنان أو الكاتب المنطوي على ذاته يعيش حالة من العزلة؟ أم إنه يمارس عملا متواطئًا ؟
قد يصح انطباق هذا الحكم على قصيدة النثر، وأضيف مستدركا إنني لست ضد قصيدة النثر ، وأوكد على هذا شريطة ان تعبق هذه القصيدة بروح الشعر وتتضمن جوهريته ، وعندما تلقي نظرة سريعة على الواقع المحيط بالقصيدة الآن نجد أنفسنا أمام المشهد الاجتماعي والسياسي بكامله حيث الانهيارات التي تحيط بهذا الواقع وتطيح بثوابته وتدمر معالمه ونماذجه وتسحقها في الصميم وهكذا جاءت القصيدة العربية شانها شان بقية الأشكال والمظاهر الفنية تجسيدا لحالة الانهيار العام ، وفي الوقت نفسه رمزا وإدانة للواقع الإنساني في مجمله، ودعنا نضيف إلى هذا طغيان الإعلام الخارجي وسيطرة التكنولوجيا المعلوماتية سواء كان ذلك على مستوى القنوات الفضائية أو على مستوى الأشكال الإعلامية الأخرى وسواء أكان ذلك على مستوى الأغنية أو العمل الدرامي ويسري الحكم على الحركة الإبداعية الحقة أو المفتعلة.
* يرى البعض أنك محسوب على معسكر الشعر الإفريقي أكثر من العربي نظرا لارتباط مضامين قصائدك الأولى بسياق كتابات عدد من الشعراء الأفارقة وفي مقدمتهم شاعر السنغال سينجور ليوبولد وإيمي سيزار وديفيد ديوب وليون داماسي.
أنا بوصفي شاعر ولدت لأكون شديد الالتصاق بقضيتي الإفريقية المتوارثة ، من حيث اللون والدم والتراث، وأيضا من حيث الرؤية والإحساس والمشاعر، هذا إلى جانب سجل حافل بالعذابات التاريخية التي عاناها الإنسان الأسود ، والذي عانى لمدة عقود ، بل لعدة قرون ظروف عبودية مفعمة بالاحتقار وانتهاك إنسانيته وطغيان قوى الاستعمار الأبيضواعترف انني مازلت حتى هذه اللحظة احمل ملء دمي وعظامي مبررات الصراخ بتلك العذابات المتوارثة والدفاع عن إنسانية هذا الإنسان الذي دمرت حياته دونما مبرر والذي استيقظ اخيرا في نهايات القرن الماضي وحاول التعبير عن ذاته وخاصة في الفترة من 1939 إلى 1945 وتاريخيا حيث جئت كشاعر عربي عقب هذا الجيل المتمرد ، ومن ثم أكتب مجموعاتي الشعرية الأولى ، وصرخت مما أعانيه من وراثاتي ، لم أعشها أنا ابن الثقافة العربية والفكر الإسلامي المستنير ، ولكنها في دمي حين وقفت في الخمسينيات لأقول :
قلها لاتجبن قلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجد وأمي زنجية
أنا أسود .. أسود لكني حر أمتلك الحرية
أرضي أفريقية عاشت أرضي عاشت أفريقية
* قرأت عن بعض العواصف النقدية (عربية وإفريقية) التي ثارت في وجهك في بداية الخمسينيات من القرن العشرين وخاصة بعد صدور ديوانك الأول هل مازال الفيتوري إشكاليا وصداميا مع النقد والنقاد إلى الآن؟
كان ذلك منذ قرابة خمسين عاما حينما صدر ديواني الول وحينذاك تفجرت في وجهي عواصف النقد الرافض المتعارض مع ما رأيته أنا ، لدرجة أن بعض الأفارقة أيضا وقفوا ضدي وقالوا لي لماذا تصم افنسان الأسود بهذه الفجاجة ةتتكلم عن العبودية التي لم تعد قائمة فهي ماض انتهى .. ولكني واصلت الكتابة وأنجزت أربعة مجموعات شعرية كاملة عن إفريقيا (أغاني إفريقيا) و(اذكريني يا إفريقيا) و(أحزان إفريقيا)، و(عاشق إفريقيا) والآن تجدني منكبا على واقعي العربي المعاصر بدءا من المأساة الفلسطينية مرورا بطغيان الإمبريالية العالمية وشيئا فشيئا تجد تجربتي الشعرية تغوص في هموم الإنسان العربي ولعل مجموعتي الشعرية (عريانا يرقص في الشمس) تجسد خلاصة رؤياي لهذا الواقع العرب المعاش.
التعليقات مغلقة.