نمنمات فى الحرب والأخلاق : (١) قلب الماءُ فوقَ السودانيين

أ.د.ابوالقاسم قور

يقول المثل ( فلان المى قلَب فوقه).وألمى أى الماء، والمعنى غرق فلان.ويقلب الماءُ أى يغطى الغريق فليس له من محيص، أو منقذ  فيموت غرقاً. ويُضرب المثلُ فى حال المصيبة التى إذا ألمت  بالشخص ليس له خلاص، أو فكاك منها ، فتحتويه، ثم تقضى عليه قضاءً مبرماً مثل حال السودان ومصيبة الحرب.

فالحرب مصيبة لأنها ابتلاء، وكل ما يُبتلى به الانسانُ ويؤذيه فهو  مصيبة، ولو أذى من شوكة كما جاء فى تفسير قوله تعالى (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ).

وشبّه فيلسوف من الفرنجة الحرب بـ (محيط بلا قاع يبتلع كل شيئ وبلا تمييز)، فالحرب لا تميز بين الأخضر والاصفر، ولا بين الطويل والقصير، ولا بين الحلو والمر أو الجميل والقبيح وهلمجرا…

وقال آخر الحرب هى الشيئ الوحيد ضد كل الأشياء، وهو وصف  بديع، وجامع.

والماء (اسم) والجمع أَمْواه و مياه، مثنى ماءان وماوان ومايان. وهو سائل لا لون ولا رائحة له شفاف. وهو عماد الحياة، فلا حياة بلا ماء.

أما الفقهاء فقد فرقوا بين الماء الطاهر والماء الطهور، ذلك فى باب الطهارة، كما جاء فى مختصر خليل للفقيه العالم خليل بن إسحاق المالكى: ماء مطلق، أى غير مقيد فى قوله : يُرفعُ الحدثُ وحكمُ الخبثِ بالمطلق وهو ماء بلا قيد. وكلمة قيد هنا كلمة فقهية حكمية والمعنى يطول شرحها فى أصول الفقه، والمعنى واضح.

ونقول (فوق) و(تحت).. وفوق الشيئ أى أعلاه، وأفضله…ومنه قول النبى عليه افضل الصلاة والسلام : اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله.

أما قولى الماءُ قلب فوقنا، فهو من باب المجاز لغةً، المجاز في اللغة العربية اصطلاحاً هو أن يقصد باللفظ معنى راجح يخطر على البال  وليس المعنى الظاهر. اى غطتنا الحرب، كما يغطى الماء الدافق الجريان، والسيل العارم الغريق. فحال السودانيين اليوم حال عصيب، أى شاق، وصعب، كما جاء فى قول المولى عز وجل (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)أى يوم صعب فى البحث عن من يدافع عنهم فى وجه قومه.

ومن مآس الحرب الواجدة، كشف الحرب حال السودانيين، وكشف الحال  أى فضحه،  وتعريف الفَضِيحَةُ : الشهرة بما يعاب ، انكشاف المعايب، كلُّ ما ينكشف من انحرافٍ عن القيم الخلقيّة، ما يجلب العار ويؤذي المشاعر الأخلاقية للمجتمع. ذلك لأن الحرب أظهرت ما كان يخفيه السودانيون، فبعد أن أُشتهروا بالكرم والجود، والأمن، بان منهم الخوف واللصوصية، وبعد الرأفة والرحمة بانت فيهم  شواظ القسوة. ذلك غضب من الله بعد دخل أرض السودان أقوام غرباء فَجَاسُوا الديار وترددوا بين المساكن. فقد عُرف السودانيين بتفاخرهم فى الكرم، وإغاثة الملهوف، ترسخت تلك القيم فى أغانيهم واشعارهم، وضربوا فى ذلك الأمثال، مثل قولهم ووصفهم للرجل الكريم بـ (عشا البايتات، ومقنع الكاشفات)، فجاءت الحرب مخذية لهم فى قيمهم التى اشتهروا بها بين الأمم والامصار، وضاربة لنسيج أخلاقهم التى أشاد بها الناس فى كل مكان. فالشاهد لا بكاء اليوم للسودانيين ولا حسرة بهم على الأطيان اللازبة، أو العمران الفخيم، لكنهم جلسوا مطأطئى رؤوسهم  حسرة على قيمهم المنتهكة، وحالهم المكشوف.

التعليقات مغلقة.