سياحة في أدب الحكم والسياسة الغمز والهمز بفصل دارفور/ د. أمين محمود محمد عثمان
ماسة نيوز :الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
١٢ سبتمبر ٢٠٢٣ م
غمز ، قرأناه من بعض نخب السودان تدعو بفصل دارفور إذ صارت عبئا على رفاهيتهم ، فشأنهم كشأن نخب العالم الثالث التي ترى في السلطة وسيلة إثراء ، وزحف دارفور للحكم خطر حقيقي لرفاههم ٠ أو هم كما المستعمرون يقايسون تكاليف الاستعمار بالمغانم الاستعمارية ، فلا حاجة لهم للإنفاق على ما لا درار من ثدييه ٠ وآخرون استثقلوا الموت من نزاعات لا حد لها فظنوا في البتر مشافاة .
ثمة أخطاء تاريخية لحكومات وطنية إقتفت خطى الاستعمار في إدارة دارفور ٠ فالاحتياجات الاستعمارية بخلاف الوطنية ٠ مثلآ الاستعمار يتبع سياسة فرق تسد لإحكام السيطرة على المستعمرة ، ولا تصلح هذه السياسة ليطبقها أي وطني ينشد قوة لوطنه ٠ فالإستعمار بعدما حدد احتياجاته من السودان فكر كيف يصلها ، فمثلا ولوفاء حاجته في القطن أحتاج لعمالة رخيصة من مصدر مأمون ، فوجدها في غرب السودان بل فيما وراء دارفور ٠ لذلك عمد على الا يقيم فيها مشروعا تنمويا تمنع أهلها من الهجرة الموسمية للقيط القطن ٠ وللأسف إقتفت الحكومات الوطنية ذات خطاها لليوم ٠ ومثال آخر للسياسة الاستعمارية التي اقتفاها الوطنيون ، هو تأمين مصدر دائم للعسكر المقاتل الحامي لمصالح الحكم الاستعماري ، تأسيسا على العلاقة الطردية ما بين الوعي الإدراكي والجندية ٠ فكل دول العالم تعتمد على البدو في الجندية ٠ ولتأمين هذا لا بد من إبقاء على وعيهم منخفضا بسياسات التجهيل وتضييق فرص العمل في مجالات تتطلب قدرا أقل من العلم ليقبلوا على التجنيد طالعين مكرهين ٠ كانت تلك سياسة الاستعمار ومرة أخرى سارت الحكومات الوطنية في دربها ، وللأسف تعرضت المحمدة غير المنكورة لحكومة الإنقاذ في توسيع قاعدة التعليم الأساسي لنكسة عندما غلبت احتياجها لمن يحارب لها التمرد على نقل البدو لرحاب التعلم ضمن سياسة التوسع في التعليم ، إذ تسرب أطفالهم من المدارس لاستلام النمر العسكرية للقتال تحت مسميات قوات حرس الحدود ولاحقا تحت الدعم السريع ٠
وما زاد الزهد من التعلم أن أميين جهلة وبسبب القدرة على القتل أعطوا تمييزا ما حلم به إلا الجاهل الاوره الحمق ، ولم يقرب موقعهم في الدولة من أمضى عمره بين الكتب مطالعا أو كاتبا ، لقد انبرى لقيادة السودان بعد الثورة جهال حتى تساءل الاطفال ما قيمة أن يتعلم الإنسان ٠ فأي بلاد العالم أنت ايه السودان ؟
يتهامسون أن أهل دارفور يمتهنون القتل والسلب والاغتصاب والتمرد وأنهم مغرقون في القبلية ، والعاقل لا يماري ما هو مشهود ، ولكن لكل سلوك دافعه وتفسيره ، فيؤاخذ عليه من يؤاخذ و يتجاوز عنه صفحا من يشاء . وما يجب على السودانيين معرفته هو تداعي مشهد الوقوع في المصيبة التي نطلق عليها أزمة السودان في دارفور ٠
بدت الأزمة بتفشي ظاهرة النهب المسلح التي كانت نتاجا للسياسة الخارجية للحكومات السودانية ، فجعلت دارفور تدفع ثمن فاتورتها ٠
أتت حركات مسلحة معارضة لحكوماتها فاستقرت بين مواطني دارفور ، فأخذت مؤنها منهم بقوة السلاح ، ولم تدافع عنهم الحكومات ، وتفاقمت الاوضاع بدخول غير منضبط للاجانب بسبب موجات القحط التي ضربت دول غرب أفريقيا ٠ وهؤلاء القادمين وجدوا استرخاءا في تطبيق القانون ، فانغمسوا أيضا في الإضرار بالسودانيين ، كما وجدوا ملاذات من قراباتهم الذين ظاهروهم وحموهم عند ملاحقتهم في النهب ، ولم يجد الآخرين حلاا غير الارتماء في احضان قبائلهم لحماية انفسهم واموالهم ٠ خاصة وان ظاهرة النهب فبدا كممارسة انتقائية من قبائل لأخرى ٠ فانتقلت الظاهرة لحروبات قبلية ٠ ومرة ثانية عجزت الحكومات من احتوائها بتطبيق القانون على المعتدين ، فابتدعت وسيلة لحلها بالمصالحات القبلية التي صارت وطاءا لتفلت اعتى المجرمين من العقاب ٠
هنا جاءت فكرة تنظيم اعمال الفزع ، ولكن لوحدة انه كلما لاحق الفزع مجرمين ، كانت القوات الأمنية تحول بينهم وبين الجناة ٠ فتداعت الأزمة لطور جديد هو التمرد على الدولة بعد أن صنفت الحكومة كحليفة للمجموعات التي كانت تنهبهم وتحرق قراهم وتغتصب نساءهم وتطردهم من ديارهم . وانقسمت مجتمعات دارفور ما بين عرب وزرقة ، وبدأت المخططات تحاك ، والاستراتيجيات تتفذ بندا بندا ، والحكومة غير عابئة بالتطورات ٠
واكتملت فشل الحكومة في معالجة الأزمة عندما تسرع جهاز الأمن بتنسيب التمرد لثلاث قبائل كانت قد دخلت تباعا في حروبات أهلية مع مجموعات عربية متحالفة ٠ ومكمن خطورة هذا التحديد لتلك القبايل أن الحكومة عندما احتاجت لمن تساعدها في حرب التمرد لم تجد إلا المجموعات العربية التي كانت في حروب مع قبائل الزرقة ، وما كان للفور والزغاوة والمساليت الاستجابة لدعوة حرب أعلنت أنها ضدهم بذلك التصنيف للمتمردين ٠
كذلك أخطأت الحكومة في الفصل ما بين متلازمين ، هما احتياجها للأمن من الحركات وما بين احتياجات المواطنين للامن من الحنجويد .كما أن من تسلحهن لدحر التمرد لم ينسوا حظ نفوسهم في تصفية خصومهم اللدودين بإمكانات الدولة وتحت حمايتها من عدم المساءلة عن أي انتهاك ومهما كان ٠
كانت النتيجة اشانة صورة السودان بفظائع الجنجويد..
فما يعاني منه اليوم أهل السودان هو مما عانى منه أهل دارفور ٠ وما هو مطلوب الآن من قادة الرأي في القبائل التي وضعت نفسها ظهيرة للدعم السريع هو ما كان مطلوبا منهم أيام إحراق الجنجويد لدارفور .. ما قيمة إدعاء الزعامة على العشيرة وأنت لا تستطيع تقويم اعوجاج المعوج من قومك ٠ وما قيمتك وأنت تعجز تبصيرهم بما يهلكهم؟ يجب ألا تجف دموعهم قبل صرف من تبقى من أبنائهم في ساحة موتهم ٠ فالبقاء مقاتلا ليست شجاعة وإنما جشع لنهب ما في أيدي الناس ، وهذا هو العيب الذي يستوجب الخجل منه .
نختم هذه السياحة بكلمات للذين حدثتهم أنفسهم بلفظ دارفور ومجه تفلا . فنقول أن التعاقد على عقد الدولة عقد تراضي في المبتدأ وحتى عند التفاصل ، فانفصال دارفور ما بات أمرا يقرره الدارفوريون ،ولا هو امر يقرره السودانيون الآخرين لوحدهم ٠ وبغض النظر عن طبيعة مبتدأ عقد الدولة السودانية ، فإنه أصبح منذ الاول من يناير عام ١٩١٧ م أمرا واقعا له في الوجدان اسبابا تمنع التحلل منه . وساذكر بعضا منها :-
اولا ٠ بالمراجعة التاريخية ، دارفور كانت دولة مستقلة حتى يوم تكوين الكونفدرالية السودانية بينها وبين سلطنة الفونج . وهي الاقدم نشوءا ( نشات دولة مسلمة ما قبل ١٤٠٠ م ) ، من الفونج التي تكونت في العام ١٥٥٢ م كدولة مسلمة ٠ وكانت دارفور أيضا متأخرة الوقوع في براثن الاستعمار الذي احتل دولة الفونج في ١٨٢٠ م فاستكانت ولم يهب أي من سلالاتها الحاكمة لاستعادة الدولة ٠ بينما هزمت دارفور أول مرة في تاريخها من قوة أحنبية نهايات العام ١٨٧٤ م ومن لحظتها انبرى لاستعادة الدولة مطالبين شرعيين لعرشها واستمرت مقاومتهم بتقديم كل من تولى نفسه للقيادة روحه فداءا في سبيل استرداد الدولة . وذلك من نهايات العام ١٨٧٤ م إلى نهايات العام ١٨٩٨ م عندما استطاع السلطان على دينار التربع على عرش آبائه لتنعم دارفور بالاستقلال بعد احتلال المستعمر البريطاني للسودان في ١٨٨٩ م ، حتى استشهاده في نوفمبر ١٩١٦ م والإعلان رسميا بضم دارفور للسودان في الأول من يناير ١٩١٧ م .
ومنذ ذلك ، وعلى الرغم من تعدد مظاهر معارضة أهلها لسياسات المركز ، إلا أنه لم يتم تسجيل أن أيا منها نادت جهرة بفصل دارفور عن السودان ٠
ثانيا ٠ منذ انضمام دارفور للسودان إلى الآن حدثت تطورات لا يمكن تجاهل تأثيراتها على تعزيز وتعميق الوحدة بالاندماج ، فوضع دارفور في السودان ظل مختلفا من وضع جنوب السودان الذي اختار أهله الانفصال ٠ فهناك قواسم تاريخية أعمق ما بين دارفور وشمال السودان ووسطه ، وبالرغم من قصور علماء التاريخ في بيان علاقات الشعوب السودانية فيما بينها ، إلا أنه وبالنظر إلى الجغرافيا بمنظور باحث تاريخ يتعمق في الإستنباط من القديم ، فلا صعوبة في التقرير أن نهر النيل حفت بحياة متماثلة على عروض ضفتيه الشرقية والغربية وخاصة في سبل كسب العيش . و عند النظر في الجغرافيا لتحديد مظان نشوء الحضارات في بلاد السودان ، فإن هضبة جبل مرة وحوض نهر النيل مظانان بلا ريب لأزدهار الحضارات ٠ ويستتبع ذلك النظر للجغرافيا لإستتباط إمكانية تواصل منشئوا تلك الحضارات مع بعضهم في ظل إدراك حقيقة وجود اودية كانت دائمة الجريان في ذلك التاريخ البعيد تنبع من الهضبة وتصب في النهر ٠ وثبت بإدلة ، وجود علاقة ما ما بين صناع حضارة مروي وشعب الفور سكان هضبة جبل مرة ٠ ففي الوثيقة التي خلد بها عيزانة ملك اكسوم( ٣٢٥ – ٣٧٥ م ) حربه على مملكة مروي ، ذكر فيها عيزانة أعيانا لأسمائها معانى بلغة الفور ، فمن خلال المقاربة اللغوية يمكن تأكيد تلك الصلات التاريخية كمعزز لوحدة الشعوب السودانية ٠ أضف إلى ذلك وحدة الدين والمصالح المشتركة وحقيقة أن الوعي تدفع الشعوب نحو المقاربة للعيش معا . فنخب دارفور تؤمن بوحدة السودان ليس بالعاطفة فقط ولكن أيضا كخيار مستقبل آمن ومستقر ٠ لذلك عندما دعا جون قرنف الزعيم الدارفوري أحمد إبراهيم دريج للانضمام لمقاومته ضد الحكومة السودانية ، طلب منه دريج أن يعطيه إجابة قاطعة للسؤال هل سيفصل الجنوب إن لم يتحقق له حكم كل السودان؟ وعندما لم يجد منه الجواب عزف من الانضمام إليه.
ثالثا ٠ بالنظر لدارفور اجتماعيا وجغرافيا ، فإن دارفور الإجتماعي المتمدد في ولايات السودان الأخرى أكبر عددا من السكان الموجودين في جغرافية دارفور ٠ وأيما فكرة لفصل دارفور الجغرافي سياسيا يجب أن تنظر لمآل هولاء الذين يتوزعون في الأقاليم الأخرى ممن عززوا شبكات إتصال لا تنفصم مع السكان الذين تصاهروا معهم ٠ فالجغرافيا في السودان ظلت أدعى لوحدة الشعوب السودانية من السياسة ٠
رابعا ٠ في الراهن السياسي الحالي ، فإن النزاع حول السلطة أوجد مراكز قوى تهدد وجود السودان ، ودونكم الدعم السريع كواحدة من مراكز القوة المتعددة الطامعة في بلوغ السلطة عبر القوة الغاشمة ٠ وستظل كل مراكز القوى التي تتبنى مشروعات لحكم البلاد عقبة في تحقيق استقرار السودان ٠ فلا مجال لتعدد مراكز القوة في الدولة الحديثة المستقرة ، ولا ديموقراطية في ظل وجود لاعبين في سباق الديموقراطية يتوكأون على بندقية يرهبون بها منافسيهم ، وهناك عدد من مراكز قوى منبعها دارفور وستعيق استقرارها ٠ كذلك فإن القبلية طاغية وتكاد تكون معبر السلطة الاهم ٠ لذلك فإن فصل دارفور لن تحسم لأهلها صراع السلطة ولن تحسم لمن سيبقى في السودان المنزوع والمنتوف أزمة السلطة التي نشهد عوارها ٠ فنزاع السلطة لن تحل بتمزيق السودان لأن تمزيق السودان سيفضي لحروبات فناء واستئصال اعاذ الله السودان منها ٠ وعجبت كما عجب الكثيرون من قول مسئول إقليمي دارفوري أن على الدارفورين إيواء إخوانهم إذا ما اسجاروهم بعد المواجهة المحتملة يومها بين الجيش والدعم السريع ٠ ووجه الاستغراب هو أن الدعم السريع لم يترك في دارفور من سيبكي له ، وكان أحرى به أن يتنبأ من خلالل معرفته بالدعم السريع انه سينسف بأفعاله فكرة العيش معا في دارفور بسلام حتى في ظل محنة الحرب مع الشعب السوداني ٠ فمن الصعوبة الرهان على دغدغة عواطف حتى عوام الناس بضلالات مهترئة ٠
خامسا ٠ الحلم بحكم السودان برضاء أهله حلم مشروع ومن حق الجميع ، ولكن يجب تطييب وسائله ٠ وما نحتاجه في السودان هو حمل النخب على تحري وسائل التبلغ الطيبة لحكم البلاد ٠ فقد عشنا تضليلا عن الديموقراطية الحقيقية التي تحل نزاعات السلطة ٠ فالشعب مصادر الإرادة بالولاءات الطائفية والقبلية والجهوية والايدولجيات الصادمة لقيم المجتمع السوداني . وكبلت الارادات الحرة بالجهل وبالفقر ، فالمتعلمون اوصياء على توجهات من لم يتعلموا ، والاغنياء نخاسون يملون على الفقراء المواقف ٠٠ وقد يدفع اليأس من تأسيس الديموقراطية البعض لبحثها في خارج اطرها الذاكيات ، وهي بتلك الطريقة ليست بحثا عنها ، ولكنها البحث عن السلطة مثلما فعلت قحط ، ومثلما روج بها آل دقلو الذين يبغون الاجهاز على كل السودان ؛ أو بالميت ؛ فصل دارفور وحكمه ٠
اخيرا هناك سؤال يسبق دعوى فصل دارفور متعلق بحدود دارفور ٠ فعلى الذين يهمزون بفصله الإجابة على السؤال باستشهادات من التاريخ ، حتى لا يوقعوا السودان في ورطة كورطة فصل الجنوب قبل تحديد حدود السودان مع جنوب السودان ٠ فبذلك ستصنعون حروبات مستقبل لا نهاية لها ٠
د. أمين محمود ١٢ سبتمبر ٢٠٢٣ م
التعليقات مغلقة.