عبدالله مكي، يكتب: الدولة العميقة وإجهاض الثورات(3-3) 

الدولة العميقة في السودان هل بالسودان دولة – بالمفهوم الحديث للدولة – أم ما زلنا شعوباً وقبائل (لم تتعارف بعد)؟ ومتى نكون (أمة واحدة ذات رسالة خالدة)؟ كما يقول البعثيون! وهل لنا مؤسسات راسخة، ولها نظمها وقوانينها؟ وهل الدولة مستقرة ولها دستورها الدائم؟ وهل هناك مؤسسية ومعايير صحيحة؟ أم (المحاصصات) الحزبية والقبلية هي التي تتحكم في مسار الدولة؟

الدولة تبتلع الثورة

منذ وستفاليا1648 ، أصبحت الدولة الحديثة راسخة وقوية، واتسعت صلاحياتها،على حساب المجتمع وفعاليته، وإزداد طغيانها وتسلطها حتى انفصلت عن المجتمع، وأصبحت(هيبة الدولة)غاية بذاتها.
يقول منير شفيق: “أصبحت الدولة الحديثة اليوم أكثر تعقيداً، وكثرت أجهزتها ومؤسساتها وتضخمت موازناتها وإمكاناتها، وتغلغلت في كل مرافق الحياة، وسيطرت على أغلبها وأصبحت تمتلك جيوشاً، لا جيشاً واحداً، وأصبحت قوات أمنها ومخابراتها جيوشاً، وهذا ما يجعل مهمة الثورة – أي ثورة – أمام أخطبوط خطير اسمه الدولة الموروثة من العهد السابق”. ويُحدد شفيق القانون الذي يدفع هذا الاخطبوط إلى (ابتلاع الثورة) وهو: “الدولة حينما تُعلن بالصوت العالي”أنا الثورة”، “أنا الشعب”، “أنا الأمة””ما أفعله يمثل كل هؤلاء”.
ولفهم هذه النظرية، ننظر لثورات السودان، وإنقلاباته، بدايتها، وشعاراتها، ونهايتها، وكيف أن الدولة ومؤسساتها – مهما كانت ضعيفة – ابتلعت هذه الثورات، وأصبحت أثراً بعد عين، ولم يبق إلا اسمها ورسمها.
فإنقلاب نوفبر1958، جاء بعيد الاستقلال، وتم تسليم وتسلم دون الرجوع للشعب ومؤسساته، يقول أحمد سليمان في كتابه (سياحة فكر وجولات قلم): “إنّ نظام الفريق عبود لم يكن ثورة ولا انقلاباً عسكرياً وإنّما كان مجرد عملية تسليم وتسلم من رئيس الوزراء والذي كان أيضاً وزيراً للدفاع إلى مرؤوسه قائد الجيش”.
ومايو 1969(ثورة مايو الاشتراكية) قامت (ثورة تصحيحية) في يوليو1971، من مؤسسيها.
ويونيو 1989(ثورة الانقاذ الوطني) الذين قاموا بها تركوها وفاصلوها بعد عشر سنين، بعد أن رأوا أن الدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية قد ابتلعت ثورتهم، يقول المحبوب عبد السلام في كتابه (الحركة الإسلامية السودانية – دائرة الضوء وخيوط الظلام):”لسنا أول حزب عقائدي ينشق على نفسه، ولكن ظننا أنّ عساكرنا خير من أولئك وأنّ لهم براءة في الزبر، بل إننا نسينا ما درسناه في زبر الدنيا وما قالت كتب علم الاجتماع العسكري”.

إذاً ما هي الدولة العميقة في السودان؟

السودان بلد هجرات وغزوات (العرب ومحمد علي باشا والإنجليز والمصريون) يقول روبرت أو. كولنز(بريطاني الجنسية) وأستاذ بقسم التاريخ بجامعة كاليفورنيا،في كتابه (تاريخ السودان الحديث): “مجيئ الأتراك والبريطانيين إلى السودان لم يؤدي فحسب إلى إضافة المزيد إلى التنوع المدهش أصلاً لشعوب السودان، وإنما أفضى أيضاً إلى خلق دولة تتحكم فيها أشكال حكم جديدة مصطنعة”.
وفصّل كولينز ما جلبه (الغزاة) إلى السودان بقوله:”فقد جلب الأتراك والمصريون معهم حضارة وثقافات من الإمبراطورية العثمانية والعالم العربي في القرن التاسع عشر، بينما أدخل البريطانيون إمبريالية وتعليم وديانة وتكنلوجيا الغرب في ذات القرن. وقد ترك كل طرف من أولئك الغزاة وراءه، وعلى طريقته الخاصة، طبقات إضافية من المؤسسات الغريبة فوق عناصر أصلية عميقة الجذور في نسيج الماضي السوداني”.
إذاً الاتهام الأول للخارج، والذي يحرص دائماً أن يكون له (مؤيدين) في الداخل. وبدأ منذ سقوط الثورة المهدية، يقول محمد المكي إبراهيم في كتابه (الفكر السوداني أصوله وتطوره): “أما المعارضة المهدوية التي كانت تتمنى سقوط الخليفة، فقد وقعت في حسرة وألم، ولكن سرعان ما تخلصت منهما بعد الأيام الأولى للغزو، ووضعت كل امكانياتها في خدمة العهد الجديد، وبضمير مرتاح، والشيئ الفاجع حقاً هو أن هذا الفريق كان يضم أكابر رجالات الإدارة والقضاء في عهد الخليفة زائداً مستشاريه واصفياءه، ولكن ذلك لم يمنعهم من توظيف طاقاتهم في خدمة الفاتحين، بل عاد قضاة المهدية السابقون ليتسنموا أعلى مراكز القضاء والافتاء في الدولة الجديدة”.

الصفوة والنخبة

الاتهام الثاني (الصفوة) أو (النخبة) أو(الأفندية) وامتيازاتها الموروثة منذ الاستعمار، وذلك بحكم تعليمها والذي مكنها من (التعالي)على مجتمعها ومن ثم (الانفصال) عنه نفسياً ومادياً وذلك بزيها المميز، ولغتها وسكنها، في المدن، وله خصوصيته ميز (الأطباء والمهندسين والضباط والموظفين) وحتى الترفيه (لها أنديتها الخاصة). يقول منصور خالد في (حوار مع الصفوة):”فالصفوة هي حاملة راية التحرير الوطني.وهي ناشر لواء العدالة الاجتماعية والممارسة الديمقراطية.إلا أنها في نفس الوقت هي الوريث المباشر والوحيد للحكم الأجنبي وامتيازاته..وفي الغالب الأعم لامتيازاته دون مسئولياته..ولذا فإن لم تستطع الصفوة القسوة مع نفسها في الحساب فستنتهي بالضرورة إلى الانحراف”.
ويواصل منصور حديثه عن (صفوة السودان) ويقول:”إنها لم تنج من الظاهرة السلبية التي تتبدى في الحرص على الامتيازات الموروثة من الحكم الأجنبي، وتتبدى في الانصراف نحو الانفاق المبدد، وتمارسه نفس الطبقة والقيادات التي تتحدث عن التنمية والعدالة الاجتماعية، والتحول الاشتراكي، وتتبدى في الإغفال التام للريف وتركيز مظاهر التطور والتجديد في مراكز التجمعات الحضرية”.
وبعد حواره مع (الصفوة) في الستينيات، يبدو أن منصور خالد يأس من إصلاحها،فكتب (النخبة السودانية وإدمان الفشل). وتحدث دكتور الترابي عن (الأفندي المضاد) وكتب خالد الكد عن (الأفندية ومفاهيم القومية في السودان). وتشبه (المثقف العضوي) لغرامشي.

المركز والهامش

هناك حديث أن الدولة العميقة في السودان هي (مركز إسلامي عربي) لمواجهة المكون الافريقي، وهناك من يتحرك تحت هذه اللافتة (العنصرية) ومن يقرأ (الكتاب الأسود) بروح قومية (سيكتشف أن هناك خلل كبير في توزيع السلطة والثروة في السودان). ونجح في هذا الأمر شخصان وهما على طرفي نقيض (دكتور الترابي ودكتور قرنق).
يقول محمود ممداني في كتابه (دارفور:منقذون وناجون):”ينبع تأثير الترابي الزلزالي من التمييز بين شمولية المبادئ الإسلامية، وضيق أفق الممارسات الثقافية العربية، والحاجة إلى تحرير الأولى من الثانية. لقد كان في إصرار الجبهة القومية الإسلامية على التمييز بين العروبة والإسلام، ما يُفسّر سبب تدفق الدارفوريين غير العرب إلى صفوف الجبهة في مرحلة مبكرة. وأخيراً فإنّ انهيار هذا التمييز لدى الإسلاميين في السلطة هو ما يُفسّر الإنقسام بين الإسلاميين وانسحاب الإسلاميين الدارفوريين إلى منظمة منفصلة”.
وقارن بينه وبين قرنق:”قد يكون ما قاله قرنق أكبر تأثيراً مما فعله، على غرار الترابي. ويُمكن قراءة تأثير ما قاله الرجلان في أفعال من أخذوا الكلمات محمل الجد. ويتضح ذلك كثيراً من التطورات في دارفور، ولا سيما نشوء حركتي التمرد:”جيش تحرير السودان”، و”حركة العدل والمساواة”، إحداهما تستلهم العلمانية الأفريقية لجون قرنق، والأخرى الإسلامية الأفريقية لحسن الترابي”.
وأكبر هزيمة للدولة العميقة تمثلت في اللامركزية وانتشار التعليم، خاصة التعليم العالي.

مستقبل ثورة ديسمبر والدولة العميقة

يقول الباحث عثمان أحمد يوسف:”الدولة العميقة ليست في الداخل السوداني بل في يد القوى الاقليمية الممسكة بزمام الأمور السودانية، وسياق الدولة العميقة، في ظل تدهور الوضع بشكل عام وهشاشة بنية مؤسسات الدولة، ليس إلا فزاعة تُوظف من النخب السياسية لتخدير الشعب، لأن سياق الدولة العميقة ضعيف داخلياً لا يمكن أن يؤثر في المرحلة الانتقالية ما لم يكن هناك دعم خارجي”.
وعن المستقبل يقول عزمي بشارة”ربما توضح لنا النتائج في المستقبل أن هذا كله كان انحدارا مؤقتا في مسار الثورة الحلزوني التصاعدي الذي يتضمن منعطفات تبدو عودة إلى الخلف، ولكنها عودة وهمية. فلا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. ويصعب استعادة النظام القديم حتى لو عادت شخوصه”.
وعن تصحيح المسار يقول بشارة”ولكن هذا لا يثبت في (فلسفة تاريخية) تقترب عادة من أن تكون لاهوتاً خلاصياً، بل يثبته الفاعلون على الأرض حين يرون أن قمع حرية التعبير، والتحريض على الرأي المخالف، وحل الأحزاب، وإطلاق تهمة الإرهاب على الخصم السياسي لتبرير القضاء عليه وتملق ثقافة الغرب السياسية في آنٍ، لا يمكن أن تكون تعبيرات عن (تصحيح مسار الثورة)”.
وأخيراً من أراد معرفة الدولة العميقة فلينظر إلى الذين يقفون ضد (التوافق السياسي) وضد إرادة الجماهير وضد الذهاب لصناديق الاقتراع لاختيار ممثلي الشعب واقرار الدستور الدائم للبلاد.

عبد الله مكي
9 سبتمبر2020

التعليقات مغلقة.