أمامة الترابي تكتب: أهمية الاتساق وقوة النموذج
تتبع مجالات الحياة المختلفة لأنظمة هادية وحاكمة تنسق كيف يتواصل الناس مع بعضهم البعض، ويصرفون شئونهم وشئون الآخرين في المجال المعين تبعاً لمحددات ومعايير تلك الانظمة. لا شك أن معايير تلك الأنظمة الحاكمة، في الأطر الأصغر أو الأكبر، عادة ما تُعرّف ابتداءً، ومن ثم تتاح معرفتها لأصحاب المصلحة والمتعاملين في ومع المجال المعين بشكل أو بآخر. كذلك فإن المجالات الرسمية والحديثة نوعاً ما، كأماكن العمل أو المؤسسات التعليمية الحديثة غالباً ما تحتكم للنظم المكتوبة والمحفوظة بشكل رسمي ومنتظم وواضح بينما أن مجالات الحياة الاجتماعية تحتكم لنظم ومعايير ثقافية أو عرفية يعرِّفها ويعززها النسق الاجتماعي المعين بشكل ما. ومن ناحية أخرى فإن وجود انظمة رسمية مكتوبة ومعلومة بوضوح وأخرى ضمنية (عرفية أو ثقافية خاصة) أمرشائع داخل المؤسسات الرسمية نفسها إذ انها تظل تمثل شكلاً من التجمع الانساني الذي يستدعي وجود ثقافة ضمنية بشكل أو بآخر.
لأغراض هذا المكتوب، نختار مجالين من أهم المجالات وهما الأسرة (البيت) والتعليم الأولي. لا شك أن ما يحدث من تعامل وتفاعل في الأسرة الأولى والأصغر والتعليم المبكر والأولي هو الأوقع أثراً على تشكيل شخصيات البشر وتطور سلوكهم وغالباً ما يحدد مساراتهم في المستقبل واسهامهم في الشأن العام (المجتمع) بدرجات مختلفة. تتسم وضعيات الأسر والمدارس بوجود شخصيات مسئولة (عن الآخرين) كالوالدين والمعلمين وتقع على عاتق تلك الشخصيات مسئولية تعيين النظم السلوكية بتعريف وتحديد السلوكيات المقبولة وغير المقبولة والمحببة والأفضل والمكروهة والمرفوضة ومن ناحية أهم تقع عليهم مسئولية حفظ تلك النظم وصيانتها من خلال تعليم المهارات اللازمة وتعزيز السلوكيات كما أتفق عليه، وهنا يكمن لب العملية التربوية وأساس التنشئة. من المعلوم ان تلك الشخصيات المسئولة يتوقع منها الكثير الارشاد والتوجيه والتعريف بما يجب وما لا يجب أثناء قيامها بواجبات الحماية والرعاية والتعليم المهاري للصغار ومن جانب آخر فإن تلك الشخصيات تتصرف (أثناء قيامها بتلك المهام) وفق ذخيرتها السلوكية التي تطورت وتشكلت من قبل. غالباً ما نجد أن هنالك بعض السلوكيات العامة والمعيارية (الإيجابية) في تلك المجالات مثل تحري الصدق والأمانة والقيام بالواجبات العامة والخاصة وتوقير الكبير ومراعاة الحقوق العامة والخاصة وتختلف أهمية السلوك هذا أو ذاك تبعاً للنسق الثقافي الذي تمثله الأسرة أو الحضانة/ المدرسة الأولية.
يظل السؤال الأهم، والذي تضمن الاجابة عليه فاعلية وكفاءة العملية التربوية داخل الأسرة أو المدرسة، هو مدى اتساق سلوك أولئك القائمين على أمر المؤسسات والمسئولين فيها مع ما هو متفق عليه من سلوك (رسمي أو معلن). هل يتصرف أحدهم فعلاً كما تنص الموجهات داخل تلك المؤسسة التربوية؟ مثلاً: هل يفي ذلك الأب الذي دوماً ما يتحدث عن أهمية الصدق والالتزام بوعوده لأبنائه؟ هل تستطيع تلك المعلمة أن تعامل زميلاتها من المعلمات بالاحترام اللازم وهي تطلب من تلاميذها احترام بعضهم البعض؟ لاشك أن أولئك المسئولين (الوالدين والمعلمين) يمثلون القدوة للصغار بقيمتهم المعنوية (وحتى المادية) العالية في نظر صغارهم، وتكون القدوة بالأفعال لا بالأقوال مما يؤكد على أهمية الاتساق بين القول والفعل.
وإن نظرنا من ناحية أخرى، نجد أن النموذج (الفعلي) هو الأقوى أثراً في أي عملية تعليمية (مهارية أو سلوكية) وأننا كبشر نتأثر كثيراً بما حولنا من نماذج وتزيد محاكاتنا للنموذج المعين كلما زادت قيمة الشخص، الذي يمثل النموذج، في أعيينا. في مجموعة من التجارب العملية، قام أستاذ علم النفس، البرت باندورا، بدراسة أثر النموذج المرئي (السلوك المعروض من شخص اكبر عمراً أمام الصغار) على سلوكهم لاحقاً ووجد أن الصغار يتصرفون طبقاً لما رأوه بدرجة كبيرة علماً بأن أولئك الكبار لم يقوموا بإصدار أية توجيهات مسموعة أو مقروئة للصغار تعلمهم ما بما يجب أن يكون عليه سلوكهم فحدث الأثر بسبب المشاهدة فقط. طور بعدها باندورا نظريته المعروفة في التعليم الإجتماعي والتي أكدت على أهمية المشاهدة والمحاكاة للنماذج الحية على السلوك. دائماً ما تحضرني الصورة المتكررة التي نراها لطفلة صغيرة تقوم بلبس غطاء ما للرأس وتقف في المصلاة وتقوم بأغلب حركات الصلاة بدون معرفة منها بماهية الصلاة أو ربما قراءة القرآن أو أي شيء من هذا سوى أنها شاهدت والدتها (مثلاً) تقوم بأداء الصلاة أمامها مرات كثيرة فهي تفعل ما رأته فقط حتى دون وجود توجيه من شخص مسئول وكبير أمرها بأن تصلي مثلاً!!
يتضح أن النماذج الفعلية المستقرة والمتكررة وخصوصا تلك التي تأتي من الأشخاص ذوي القيمة الأكبر، لها الأثر الأكبر في تشكيل السلوك بينما تظل التوجيهات والتعليمات والقوانين وأي شكل من القواعد التي تفرضها الأنظمة أضعف أثراً بدون وجود نموذج يمثلها فيتبعه الناس. ولا شك أن اتساق النموذج الفعلي للشخص المسئول مع ما يطلبه من سلوك هو وحده ما يضمن أن يتبع الآخرين طلباته تلك. فإن كانت المعلمة مثلاً عالية الصوت وكثيرة الكلام فعلاً في نفس الوقت الذي تطلب فيه من تلاميذها خفض صوتهم وتقليل كلامهم أو كانت الأم مثلاً تتجه للكذب في بعض المواقف الاجتماعية (مع الآخرين) حين أنها تطلب من ابناءها أن يصدقوها القول عندما تسأل عن شيء ما، فكيف نتوقع من الصغار الذين يتعاملون مع تلك النماذج بأن يتبعوا ما يسمعونه من ارشادات من معلمتهم أو والدتهم؟؟ تظل أهمية الاتساق بين القول الفعل واجبة لكل من يتقدم بوصفه مسئولاً أو مرشداً بشكل أو بآخر ويظل أثر السلوك المنمذج هو الأقوى على سلوك الآخرين خصوصاً أولئك الذين يرون في الشخص النموذج ميزة أضافيه تجعله الأجدر بالاتباع.
أمامة حسن الترابي
4 سبتمبر 2020
التعليقات مغلقة.