*السياسة الأمريكية إزاء السودان: الرهان الحقيقي* د حسن عيسي الطالب
ماسة نيوز
بعد استقالة رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك والشعور الحائر بأن من يخلفه لا يزال في رحم الغيب، اضطربت القوى الغربية الداعمة لحكومته الآفلة والتي ظلت تقودها وتوجهها أمريكا عبر دول الترويكا مع بريطانيا والنرويج وربما أنهم لم يتوقعوا هذا السناريو الكئيب.
غير أن سياسة أمريكا الثابتة واستراتيجيتها الخارجية المعلنة تعمل وتتصرف استراتيجيا في المنطقة التي يحظى السودان فيها بمحورية واستراتيجية جيوبوليتيكية لا يمكن الاستغناء عنها، تهدف الى قطع الطريق أمام كل من الصين وروسيا من الاقتراب من سواحل البحر الأحمر خوف التأثير على الدول المطلة على شواطئه واستثمار الموارد النفطية والمعدنية والزراعية والمياه التي تزخر بها كل المنطقة، ومنها السودان. وهذا ما يفسر فتور العلاقات مع هاتين الدولتين طيلة فترة رئاسة د حمدوك للحكومة خلال الثلاثين شهرا الماضية. كما لأمريكا ودول الترويكا مصالح استراتيجية مرتقبة وقيد الإجراء في كل من ليبيا ومالي وتشاد وغينيا بعد اضعاف التأثير والدور الفرنسي في تلك المنطقة وانزوائه عمليا الى تخوم الساحل الغربي للأطلسي نحو دول السنغال وبنين وبوركينافاسو وخروج المظاهرات ضد فرنسا في مالي وغينيا وعدد من دول الساحل، وضعف تأثيرها في رواندا وبوروندي والكنغو، بما ينذر بتلاشي دورها تدريجيا من منطقة غرب ووسط أفريقيا الفرنسية خلال العقد القادم على أرجح التقديرات. ولذا تخطط أمريكا بإحترافية جيواستراتيجية وإستباق لاهث لقطع الطريق أمام روسيا والصين المتربصتين لحيازة التركة الفرنسية الأفريقية، كما فعلت ذات الشيئ مع بريطانيا في وراثة مستعمراتها في الخليج والعراق وإيران عند نشوب الحرب العالمية الثانية في منتصف ثلاثينيات القرن المنصرم.
كذلك لدى أمريكا نفوذ تاريخي في إثيوبيا المجاورة للسودان ومع مجموعة التقراي، ولها مصالح استراتيجية في جنوب السودان ويوغندا ومصر .
كما أن هناك ملف الناتو ومشروعه الرامي للتوسع في جمهوريات الإتحاد السوفيتي الآبقة كأوكرانيا والمناوشات المفتعلة من قبل حلف الناتو مع روسيا ومحاولات اغواء بعض دول الاتحاد الروسي للإنضمام للحلف وحثها لتقديم تسهيلات عسكرية ولوجستية واستخباراتية للحلف وتحفيزها بالانضمام للإتحاد الأوربي، بالإضافة الى ملف بحر الصين الجنوبي، ومصير تايوان التي تتهددها الصين بمحاولات ضمها للوطن الأم فيما تصر أمريكا على تحريضها وتسليمها أسلحة متطورة لتقف ضد محاولات الانضمام ولو بالقوة المسلحة.
أضف الى ذلكم الملف النووي الإيراني وتعقيداته ومحاولات الاحتواء الامريكي ضدها والتنكر لبنود الإتفاق الذي ألغاه الرئيس ترمب من طرف واحد وتدعو إيران أمريكا فقط بالالتزام به، فضلا عن ارجاف وايجاف أمريكا في تسريع عمليات التطبيع الجارية مع اسرائيل مع عدة دول عربية وترقب انضمام السودان وترحيب أمريكا واحتفائها به أكثر من اهتمامها بالانتخابات وتثبيت الديمقراطية عبر المشروعية الدستورية.
أمريكا تضغط إعلاميا وتكتيكيا على سودان ما بعد حمدوك مع توابعها في الترويكا والاتحاد الأوربي، الذي رهن سياسته الخارجية لمشيئتها، لتحقيق أكبر قدر من التنازلات الممكنة، ولكنها لا تستطيع واقعيا التخلي عن السودان مهما تشدقت بالترهيب الدبلوماسي والتخويف الاقتصادي لمن بيدهم العقد والحل، فالتكلفة ستكون عليها باهظة وستكلفها إن أضاعت الفرصة الراهنة مليارات الدولارات، إذ تفقدها نفوذا استراتيجيا فاعلا ومواقع جيوبوليتيكية لا يمكن تعويضها على الساحتين الفضائية والبرية وكذا على مستوى القواعد البحرية، إذ يحوز السودان على مساحة تقدر بحوالي ٨٠٠ كيلو مترا على سواحل البحر الأحمر التي يمكن أن تؤمن التزود بالوقود والخدمات اللوجستية لعشرات القواعد البحرية وخاصة للدول التي تتجمد موانئها في الشتاء.
أمام الفريق أول البرهان رئيس مجلس السيادة فرص واسعة للمناورة لتحقيق المصلحة العليا للبلاد، وخاصة بعد انهاء ملف الإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية واستقالة د حمدوك التي ذكر من أهم أسبابها عدم رغبة الطرف الذي كان حاضنته السياسية قبول الآخر المخالف له في الرأي، ونتج عن ذلك ما أسماه بالمفاوضات العدمية، ثم أوصى بإجراء مائدة مستديرة تضم الجميع للحفاظ علىالوحدةالوطنية.
بيد أنه يتعين على رئيس مجلس السيادة في هذه المرحلة الفاصلة التعجيل بتشكيل الحكومة بالغالبية الميكانيكية المتاحة والراغبة، والتركيز على توفير حاضنة من الخبرات الاستشارية الوطنية وتوسيع دائرة أرباب التجارب العملية في مجالات السياسة الخارجية والمفاوضات الثنائية ومتعددة الأطراف والشراكات الجيوبوليتيكية واتاحة الفرصة للخبراء والمختصين لتقديم كافة السيناريوهات المحتملة لكل حالة واقتراح التوصيات المطلوبة.
الرهان الحقيقي أمام الاستقرار السياسي اليوم هو في مكاشفة ومصارحة الشعب السوداني بكل ما يدور واشراك كافة مكوناته الجهوية والسياسية والاجتماعية في إدارة الدولة دون عزل إلا بموجب القانون، وتعزيز دور الجيش الوطني واستنهاض عقيدته الجمعية الوحدوية كضامن للسيادة الوطنية وأمين موثوق على عملية التحول الديمقراطي وحراسة الدستور والحفاظ على الوحدة الوطنية.
كما يتعين على قيادة الجيش الوطني التأكيد على أن سيادة وعزة أهل السودان ووحدة أراضيه واستقلال قراره السياسي ليست سلعة معروضة لمن يدفع أكثر ولا لمن يقعقع بسيف أبتر.
بلى إن السودان في وحدته وتمسكه بقيمه وإرثه الحضاري.
فالرهان الرابح والمستدام يكمن في الإصطفاف مع الشعب السوداني وكسب ثقته، لا الالتفات لدعاوى الترغيب ولا فتاوى الترهيب.
السفير د حسن عيسى الطالب
التعليقات مغلقة.