*ذكرى الاستقلال* الأزهري في التاريخ و في وجدان الشعب *بقلم ~* _أحمد الشين الوالي_
ماسة نيوز
بسم الله الرحمن الرحيم
و الزعيم الرئيس «إسماعيل الأزهري» هو إسماعيل أحمد إسماعيل أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي الداعية صاحب القبة _ المشتهرة في الحي المعروف في مدينة الأبيض ، بكردفان . ولد إسماعيل الأزهري في 20 أكتوبر 1900م ، و توفي في 26 أغسطس 1969م و هو حبيس سجن كوبر . و دفن في مقبرة أسرته بأم درمان «مقابر البكري» ، و الشيخ مصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل الولي أول من دفن فيها . و فيها دفنا شيخنا و أستاذنا المعلم «عبد الرحيم إبراهيم أبو الغيث» حفيد الشيخ إسماعيل الولي ، و دفنا فيها شيخنا «ياسين عمر الإمام» ، و كلاهما له أثر في . تقبلهم الله جميعاً و من معهم في عليين في رفقة النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين .
و «الأزهري» اسم الشهرة نسبة لجده «إسماعيل الأزهري» و جده «أحمد الأزهري» اللذين تلقا العلم في الجامع الأزهر . فالزعيم المرحوم «الأزهري» من بيت علم ، و دين ، و قضاء . و قد درس القرآن في خلوة جده السيد المكي _ الاسم العلم الذي أطلق على «حي السيد المكي» و «محطة مكي» بأم درمان ، و المكي هو ابن السيد إسماعيل الولي . ثم تعلم الزعيم في كلية غردوا بالخرطوم ، و الجامعة الأمريكية ببيروت .
كان الأزهري نشط ، و نشيط ، و ناشط من أجل الوطن :
• كان أمين عام مؤتمر الخريجين عند تأسيسه 1937_ 1938م .
• ثم غدا رئيساً لمؤتمر الخريجين .
• ثم تزعم حزب الأشقاء في 1943م . ثم ترأس الحزب الوطني الاتحادي بعد الاندماج .
• و في عام 1946م تفرغ للعمل السياسي .
• و في عام 1952م ، بعد الثورة المصرية ، أنشأ و آخرون الحزب الاتحادي الديمقراطي .
•••
و في جهوده لأن ينال الوطن حريته و استقلاله ذهب مع بعض قادة السودان إلى لندن للالتقاء بملكة بريطانيا العظمى . و عند وصولهم لقاعة اللقاء عمد الزعيم الأزهري للجلوس على عرش المملكة _ كرسي الملكة! فجاءه رجل التشريفات «البروتكول» مهرولاََ يقول للزعيم : إنك ارتكبت خطأََ بروتكولياََ إذ جلست في كرسي الملكة ! و رد الزعيم الأزهري متحدثاً ، بصوت جهوري طلق ، و إنجليزية سلسة سليمة : لا يا بني ، أنا لم ارتكب خطأََ بروتكولياََ كما زعمت ، لقد تعمدت الجلوس على كرسي عرش مملكتكم لكي أثبت لكم ، أيها البريطانيون ، و أثبت للجميع ، أنكم لا تطيقون جلوسي على مجرد كرسي يرمز للعرش و لو لبضع دقائق ، بينما تعطون أنفسكم الحق في الجلوس على عرش بلادي خمسة و خمسين سنة ، دون وازع أو ضمير !
ثم قام الزعيم ليجلس على الكرسي المخصص له بعد أن دوت القاعة بالتصفيق من كلا الجانبين السوداني و البريطاني . و في اليوم التالي صدرت الصحف البريطانية (التايمز) و (الديلي تلغراف) و (الغارديان) في عناوينها الرئيسة (الزعيم الأزهري يلقن الإنجليز درساً قاسياً) .
و في يوم 1955/12/19م أعلن الرئيس إسماعيل الأزهري ، من داخل البرلمان ، استقلال السودان . و في 1956/1/1م رفع الأزهري رئيس الوزراء ، و معه محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة ، علم السودان على سارية البرلمان ، و من هنا جاءت تسميته الزعيم . و في مناسبة الاستقلال تلك قال في خطابه : ( _ليس أسعد في تاريخ السودان ، و شعبه ، من اليوم الذي تتم فيه حريته و يستكمل فيه استقلاله ، و تتهيأ له جميع مقومات الدولة ذات السيادة . ففي هذه الساعة التاسعة تماماً من اليوم الموافق أول يناير 1956م _ 18 جمادي الثاني سنة 1275 هجرية : نعلن جمهورية السودان الأولى الديمقراطية المستقلة ، و يرتفع علمها المثلث الألوان ليخفق على رقعته و ليكون رمزاً لسيادته و عزته . . إذا انتهى في هذا اليوم واجبنا في كفاحنا التحرري ، فقد بدأ واجبنا في حماية الاستقلال و صيانة الحرية ، و بناء نهضتنا الشاملة التي تستهدف خير الأمة و رفعة شأنها ، و لا سبيل لذلك إلا بنسيان الماضي و طرح المخاوف و عدم الثقة ، و أن نقبل على هذا الواجب الجسيم إخوة متعاونين و بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضاً ، و أن نواجه المستقبل كأبناء أمة واحدة متماسكة قومية . . لا يسعنا في هذه المناسبة إلا أن نمجد هذا الشعب الأبي على حيويته و إيمانه و جهاده الذي أثمر الثمرات_) .
و تحدث محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة فقال فيما قال : ( _لو كانت مقاعد مجلس النواب موضوعة على الشكل الذي يسمح لنا أن نجلس اليوم في صف واحد حتى تختفى الحدود و التقاسيم الحدودية لما ترددنا في ذلك لحظة واحدة ، إن السودان قد أصبح دولة مستقلة ذات سيادة كاملة_) .
و في نفس عام الاستقلال 1956م أستقطت حكومة الزعيم الأزهري ، بالفعل الديمقراطي من داخل البرلمان ، و جاءت حكومة جديدة عرفت ب «حكومة السيدين» ، برئاسة المرحوم عبد الله خليل . ثم وقع أول انقلاب عسكري في البلاد يوم 17 نوفمبر 1958م ، بقيادة الفريق إبراهيم عبود .
اتصل قادة في الجيش يعرضون على الزعيم الأزهري إعادته للسلطة عبر انقلاب عسكري لتدارك الموقف السياسي المتراجع ، و لكنه رفض العرض ، و قال للذين عرضوا عليه توجهاتهم و نواياهم أنه لو لا معرفته بهم و أنهم أناس صادقون ، لا متآمرون ، لسلمهم للقضاء .
و في التزامه ، و جهده و جهاده ، تعرض إسماعيل الأزهري للاعتقال السياسي في كل الحقب السياسية :
• اعتقله المستعمر بسبب مواقفه الرافضة ، و المعادية ، للمجلس الاستشاري و الجمعية التشريعية .
• و اعتقلته حكومة عسكر إبراهيم عبود بسبب خطابه الذي طالب فيه الجيش بالرجوع إلى ثكناته .
• و اعتقل الأزهري عند مجيء انقلاب اليسار السوداني (القوى االتقدمية) يوم جاء في 1969/5/25م فاتخذ ذلك التاريخ اسما للحدث فقيل (ثورة 25 مايو) . اعتقل و هو رئيس مجلس السيادة خلال الفترة 1965_1969م . و في اعتقالاته و معتقلاته صابر و مرابط يقيم الليل و يقرأ القرآن سجيناً ، كما كان يفعل رئيسا .
و في يوم 1969/8/26م أصدرت حكومة انقلاب مايو بيانا يعلن عن على الملأ وفاة الزعيم الرئيس الأزهري جاء فيه : (اليوم توفى إسماعيل الأزهري . و كان الفقيد معلما بالمدارس الثانوية) . و كان في مجلس قيادة انقلاب مايو نفر ينادي بدفن الزعيم سرا!
• • •
و أنا مولود ضمن الذين يحملون «شهادة تسنين» تقدر أنني من مواليد 1956/1/1م . و شاعت بين أقراني التسمية «أزهري» و «إسماعيل الأزهري» ، فحيثما وجدت تلك التسمية فأعلم أن المسمى من مواليد أيام النضال و الاستقلال غالباً .
كانت بدايات سماعي بالزعيم الأزهري عبر تسمية عمي «بريمة الوالي» المصارع المخضرم في فن المصارعة الشعبية ذات البعد الاجتماعي في وسط كردفان و جنوبها ، و أهلي يقولون الصراع ، بضم الصاد لا المصارعة ، فعال لا مفاعلة و هم أهل اللغة و اللسان . اشتهر عمي تسمية و مشكارا ب «الزعيم الأزهري» ، و كان ألمعي قدير يصرع الأشاوس و يجيد فنون و تكتيكات الصراع ، و أنواع و طرق ردع الخصم . و لا مجال للتوسع في ذكر المصارعة ذات الشعبية الجماهيرية الواسعة في بوادي كردفان . و يكفيني القول أن «الأزهري المصارع» كان مثل «الأزهري السياسي» يعرف المخاتلة ، و يجيد الكر و الفر يتشبه بالأزهري حين يلبس النظارة الشمسية و هو يجول في ساحة الوغى ، ثم يصرع الكماة الأكابر و الأقران في « *نقعة* *الصراع*» كما يفعل الأزهري السياسي في « *ميدان* *الحرية*» الواسع ، و في البرلمان .
توفى عمي «بريمة الأزهري» مبكرا في أواسط ستينات القرن الماضي ، رحمه الله و أحسن إليه ، و ما شهدت في الأهل ، من قبل و لا من بعد ، إنسانا بكوا لفراقه مثل ما بكوه . و تلك كانت أيام محبة و محنة بين الناس .
و توفى «إسماعيل الأزهري» الزعيم معلن الاستقلال و رافع علم السودان ، و رئيس مجلس السيادة الأسبق ، و كل نفس ذائقة الموت . و حتى سقوط نظام مايو في 1985م ما كنت أعرف شيئاً كثيراً عن فكر «الأزهري» اللهم ، إلا الشعار الأثير غير المفسر «مبادئ الأزهري لن تنهار» .
• • •
في صيف عام1991م زرت مدينة زالنجي في وسط دار فور في مهمة حزبية سياسية لصالح «الجبهة الإسلامية القومية» . و ألتقيت في زالنجي بعضوية الجبهة . كان اللقاء في منزل أمين الجبهة الإسلامية _ مدير مشروع جبل مرة الأخ المهندس السميح الصديق النور . و بعد حديثي للعضوية ، و مرافقي الأخ التجاني أحمد سنين [أبكر] ، كان أول المتحدثين رجل أعطي الفرصة و ذكر اسمه فقيل شيخ «إدريس حبيب» . أكاد أتذكر كلماته و هو يتحدث بلسان أهل دار فور : _(و الله ، يا وليدي ، أنا مبسوط خلاص من كلامك . و الله كان مشيتو في كلامكم دا كل الناس ببقو معاكم . و الله ، سيد إسماعيل الأزهري _ رحمه الله _ ذاتو كان حي كان ببقى مع الجبهة الإسلامية_) .
و بعد انتهاء اللقاء انتحيت بالشيخ «إدريس حبيب» جانباً ، و سألته عن علاقته بالزعيم الأزهري ، و طلبت منه أن يعطني فكرة و لو مبسطة عن الزعيم . فقال لي الكلام عن الزعيم يمكن أن يمتد لساعات طوال ، ثم قال لي : ( _زار الأزهري «زالنجي» في طواف سياسي تفقدي ، و كان معه نفر من القيادة من ناس البحر ناس سمحين و نضاف و لبيسين . و كان معه رجل وجيه ذو قامة و طول فارع ، و لكنه كان (يشرب «البقو» شراب شين) . و لاحظت وجوه من الفور يتغامزون بشأنه فذهبت للزعيم الأزهري ، و أنا في حالة سيئة ، قلت للزعيم : السيد الرئيس ، «البلد بدخلو بعياله_» . _قال لي الرئيس : سيد إدريس ، تفضل قل ما عندك . قلت له : سيد إسماعيل ، أهلنا في دار فور يشربون البقو _ المريسة ، الخمرة البلدية_ و _لكنهم يعتقدون أن القادة و المصلحين لا يمكن أن يتعاطوا التفاتيف و اللغاويس ، و هم يرون «سيد فلان» يكثر من شرب البقو ، و هم لا يغفرون له و لنا فعله ، و ربما يرى بعضهم أن الزعيم_ _الأزهري نفسه ربما يتعاطى البقو سرا! و بهذه الكيفية التي يتصرف بها «سيد فلان» سينفض العامة من حولنا ._
_هز الزعيم رأسه كناية عن تفهمه للأمر ، و نادى من جاءه فأمره باستدعاء «سيد فلان» . قلت في نفسي : هل سيفضحني سيد إسماعيل! ثم رددت تخوفي سرا : دا الزعيم ، ما ممكن يعمل شئ ما معقول . و فعلاً جاء «سيد فلان» و فضله السيد الزعيم ، فجلس . و في حضوري قال له الأزهري : سيد فلان ، لقد بان لي غرض مهم جداً في أم درمان ، و هو سر لا أرى غيرك مؤتمن عليه . امشى جهز عربة تقلك لأم درمان ، ثم تعال لي وحدك لأقول لك ما بدأ لي من سر ._
خرج الرجل في همة و هو مبسوط لمكانته عند الزعيم ، و بعد خروجه قال لي الأزهري : سيرجع «سيد فلان» الآن إلى أم درمان . و خرجت من عند الزعيم . و أصبحت أراقب «سيد فلان» الذي عاد إلى الأزهري دون تأخير . و ما عرفت ما قاله له الزعيم ، و لكني لاحظته فرحا و هو يخرج من عند الزعيم . و تقدمت إلى «سيد فلان» مودعا ، فرأيته مبسوطا لأني شهدت و سمعت و علمت مكانته عند الأزهري .
و قد سألت عن عمنا «إدريس حبيب» فأعلمت أنه فوراوي قرأ و تخريج في الأزهر ، و هو عنصر بارز من أنصار الزعيم إسماعيل الأزهري في الفاشر ، و زالنجي . و الشيخ «إدريس حبيب» متحدث خطيب مفوه تعرفه الجماهير ، و يعرفها . و حكوا عنه و عن جماهير شعبنا في ندوة بطحاء كتم الشهيرة ، و حديث «إدريس حبيب» الأشهر الذي سارت به الركبان ، و تحدث به الغائب ، و رب مبلغ أوعى من سامع :
_يا أهل كتم ذات الهواء الطلق_
_سنبني لكم مدرسة عند هذا الوادي_
فقاطعته الجماهير المحتشدة :
_ألمي بشيلي ، ألمي بشيلي !!_
فرد إدريس حبيب على ملاحظة الجماهير :
_سنضرب له سدا منيعاً يمنع هذا الألمي_
فردت عليه الجماهير بانفعال :
_داكو لقيتي ، داكو لقيتي_
و بعد ثورة أكتوبر ، و قيام جبهة الميثاق الإسلامي ، انضم «إدريس حبيب» إليها ، و لكنه لم ينس أفضال الزعيم الأزهري ، و لا أخلاقه و قيمه و مكانته . رحم الله شيخ «إدريس حبيب» ، و أكرمه إذ لم يحضر المآسي التي ألمت بأهله في دار فور ، فقد انتقل إلى جوار ربه في مطلع العام 2003م قبيل الحرب الواسعة في الاقليم .
• • •
و في بدايات عام 1998م و لما كنا قد عالجنا أزمة «النهب المسلح» في محافظة سودري الكبري ، تفرقنا لقضايا أكبر و جهاد أعظم ، و الفقر أخطر ما يواجه المجتمع المحلي في تلك القري الصحراوية النائية المتفرقة . و في تدبير و تنسيق مع محلية سودري تم الاتفاق بينهم و المحافظ على زيارة «قرى دار الريح» الأربع ، قرية محمد علي ، قرية الروكب ، قرية أم شحيطة ، و قرية دميرة ، القرى المتجاورة التي عرفت بحلالات «دار الريح» و التي تعنى حرفيا (قرى الشمال) شمال مدينة سوري ، على بعد 12_ 15 كيلو متراََ ، في منطقة صحراوية شديدة الرمال .
كان الاتفاق بيننا أن تجتمع القرى الأربع في موقع واحد ، بطلب من المحافظ . ألتقيت أهل قرى دار الريح الأربع في راكوبة واسعة في قرية دميرة . بدأ المحافظ حديثه معهم عن علاقتهم بالمحلية _ الحكم المحلي ، و سألهم : متى كانت آخر زيارة للمحلية لهذه القرى . فأجابوا أنهم لا يتذكرون لهم زيارة ! و قالوا : إن الطريق صعب لا تقدر عليه عربة المحلية المتهالكة . و تلك حجة محلية سودري . اضطرت تلك الحجة المحافظ لسؤال وجهه لأهل القرى عن علاقتهم بالمدينة ، فقالوا أنهم دوماً فيها و أنهم يذهبون إلى المحلية لمتابعة مصالحهم ، و أنهم يمتطون الدواب _ الحمير و الجمال ! فسأل الحضور من أهل القرى ، و من كان في رفقته ممثلا للمحلية : ما رأيكم لو أن المحافظ ، أو رئيس المحلية ، جاءكم متفقدا لأحوالكم و هو يمتطي الحمار أو البعير هل ينقص ذلك الأمر أو يقلل من مكانته؟ فأجابوا كلهم بالنفي . ثم تحدث إليهم كيف يمكننا معا أن نقدم الممكن لهذه القرى الفقيرة البائسة التي تعاني من نقص كل شئ حتى الماء أهم و أبسط الاحتياجات ، و الذي لا حياة دونه . و كلامه الذي ساقه لهم يتعلق بالاصلاح الاجتماعي ، و الدعم المعنوي ، و هو أساس فلسفة نظام الحكم الاتحادي في تقصير الظل الإداري . و يبدو أن كلامه وصل للمجتمعين ، و فهموه ، و تقبلوه .
كان أول من طلب من الأهالي الإذن للحديث رجل متماسك لا تبدو عليه أي علامات تشير إلى أنه رجل استثنائي ، و لا يظهر عليه أنه أكبر أو تقدم في السن . عرف الرجل نفسه فإذا هو « _تارس ركزه حامد_ _شيخ قرية دميرة_» احدى قرى دار الريح الأربع ، و نحن نجتمع في داره في دميرة . بدأ «الشيخ تارس» حديثه بطريقة لا تخلو من دراما : ( _يا ناس هوي ، كتاب الله جاكو ، الأفحل مني فيكم منو؟!_) . سكت الناس كلهم أجمعين . ثم أخذ الفرصة رجل يبدو أنه أسنهم عمرا : _و الله ، يا شيخ تارس ما دام كلامك جاب ليهو كتاب أنا بقول ليك في حلالاتنا دي ما عندنا زول أفحل منك معروف تب ._
ثم عاد «شيخ تارس» متحدثاً يوجه حديثه مخاطبا المحافظ : ( _السيد المحافظ ، ما في زول بقول عن نفسه أنه فحل و أرجل من الناس . و أنا قصدت بكلامي دا أن تعرف ما يقوله أهلي عني . و النصيحة ، يا السيد المحافظ ، كلامك ذكرني خوفة خفتها ، و أهلي لا يعلمون!_
قبيل خروج الإنجليز جاء توجيه من قيادتنا الأهلية تقول لنا أن الزعيم إسماعيل الأزهري جاي زيارة لمدينة سودري و عندو كلام مهم ، و قالوا لينا كل حلالات دار الريح تحضر إلى مدينة سودري «الأعمي يشيل الكسيح» . و فعلاً حضرنا زيارة السيد إسماعيل الأزهري لمدينة سودري . _كان اللقاء حاشدا ، و تحدث الأزهري حديثاً صعبا ، و سأل الحضور : هل أنا عندي رجال ، رجال حارة و حوبة ، بيخوضوا معي المصاعب بلا تراجع! و كلمات كثيرة كلها تعبيئة . كان الناس على الجمال و على الأرض يشهرون السيوف و الحراب ، و بعضهم يلوح بالسكاكين ، و بعضهم يحدث صراخا و جلبة و بعضهم يكبرون الله و يهللون ، و النساء يزغردن فيزداد هياج الناس!_
ثم أسكت الزعيم الأزهري الناس ، و بعد التهدئة قال لهم : _خلاص ، الآن أنا مطمئن لنجاح مشروعي فانصتوا ، اسكتوا ، لتسمعوا خبري . . و لما سكت الناس قال لهم الزعيم : أيها الشعب الثائر ، أنا الرئيس إسماعيل الأزهري قررت طرد المستعمر الإنجليزي من بلدنا السودان_ .
ثم سكت الأزهري . _و أنا لا أدري كيف تجاوب الناس مع هذا القرار الصاعق! و الله ، يا السيد المحافظ ، لقد دخلتني في تلك اللحظة خوفة و رعدة ما عرفتها في حياتي قط! الخواجة الحاكم كان قاعد في البيت الذي تسكنه أنت اليوم بيسمع في كلام الأزهري! كانت خوفتي تلك خوفة لم يعلمها أهلي أبدا! و لكن ، أنا عشت ، و حضرت طرد السيد إسماعيل الأزهري للمستعمر البغيض_ . و كلامك اليوم ذكرني كلام السيد الزعيم إسماعيل الأزهري ، و لو سمعنا كلامك القلتو لنا اليوم و عملنا به سننجح كما نجحنا من قبل مع الرئيس الأزهري .
و لما انتهى لقائي مع أهلنا في حلالات دار الريح ، و قبيل مغادرتي طلب مني الشيخ «تارس» وضع حجر أساس لمسجد جامع في قرية دميرة مسقط رأسه .
و قبل عامين ، من اليوم ، غادر _الشيخ تارس ركزة حامد_ الحياة الدنيا ، إلى جوار رب بر رحيم . و قد شهد ، المغفور له بإذن الله تعالى ، تحولا اجتماعيا و اقتصاديا كبيراً في قرى حلالات دار الريح نتيجة نضالهم الصبور و كفاحهم العجيب في مناجم الذهب في المنطقة ، و في غير المنطقة ، و في عمارة الدهب بالخرطوم .
رحم الله الأزهري الزعيم ، و كل قادة بلادنا الذي جاهدوا و ناضلوا ، و جماهير شعبنا . و أحسن الله حال الوطن .
و الكفاح مستمر ، و الخائن يطلع بره .
_أم درمان _ كرري_
الجمعة 17 جمادي الأولى 1442 هجرية _ 2021/1/1/1م .
التعليقات مغلقة.